هناك قضيتان رئيسيتان تشغلان واشنطن في الشرق الأوسط حالياً: عناد بنيامين نتنياهو الذي أثار الضيق والاستياء عبر المحيط، وشبح اندلاع نيران إقليمية أوسع نطاقاً بمشاركة الولايات المتحدة -وهو الأمر الذي قد يرقى إلى مستوى الإلهاء.
وتتشابك القضيتان هنا، لكنهما تستحقان تسليط الضوء عليهما بشكل منفصل؛ إذ يسعى نتنياهو بشكل متعمد إلى الدخول في مواجهةٍ مع إدارة بايدن، كما يقول ألون بينكاس القنصل الإسرائيلي السابق في نيويورك٬ بمقالة له في صحيفة Haaretz الإسرائيلية؛ حيث ستخدم هذه المواجهة شجاعته الزائفة المتمثلة في جملة “أنا أتصدى للضغط الأمريكي”، وستأتي كجزء من محاولته تحويل السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى صراع تاريخي أكبر بكثير حول الدولة الفلسطينية وإيران.
ويقول الدبلوماسي السابق بينكاس إنه كتب مراراً هو وآخرون عن هذا الأمر من قبل، لكن يبدو أن هذا الإدراك قد نضج في واشنطن الآن، مع ظهور تقارير أمريكية عن مشاعر “الإحباط والغضب وخيبة الأمل” تجاه نتنياهو، الذي لم يعد يُنظر إليه كحليف. ويمكن القول باختصار إن إسرائيل لا تزال حليفة، لكن رئيس وزرائها ليس كذلك.
“جحود نتنياهو بلغ مستويات لا تُحتمل بالنسبة لبايدن”
تعرّض بايدن للضغط من أجل الابتعاد تدريجياً عن دعمه الأوّلي الصارخ للحرب في غزة، بالنظر إلى عدم تعاون نتنياهو معه، لكنه قاوم تلك الدعوات بوضوح. ومع ذلك، يبدو أن جحود نتنياهو بلغ مستويات لا تُحتمل بالنسبة لبايدن. ويرجع تاريخ هذا الصدع إلى الانقلاب القضائي الذي حرّض عليه نتنياهو بين يناير/كانون الثاني وأكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، والذي أحدث شرخاً كبيراً في “القيم المشتركة” المفترضة بين البلدين كما يقول بينكاس، وأسفر عن رفض زيارته للبيت الأبيض عام 2023.
ومنذ بدء حرب إسرائيل على غزة٬ تزايد الاستياء الأمريكي وسط أرض خصبة جيوسياسياً نتيجة اتهام الإبادة الجماعية من جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، ناهيك عن تهرُّب نتنياهو المستمر من خطط “حوكمة غزة” بعد الحرب وتجاهله للمصالح الأمريكية. ولم يتحدث بايدن مع نتنياهو منذ 22 يوماً، في أعقاب المكالمة الهاتفية التي انتهت بإعلانٍ فظّ من الأول قال فيه إن “هذه المكالمة انتهت”، ثم اعترافه أمام أنصاره في حدثٍ خاص ببوسطن أنه “يعرف تصرفات نتنياهو ونواياه”.
وبحسب بينكاس٬ خلصت إدارة بايدن كذلك إلى أن نتنياهو لديه مصلحة سياسية كبيرة في إطالة أمد الحرب، كما أنه يجر الولايات المتحدة معه إلى صراعٍ إقليمي.
ما هي خيارات بايدن “الواقعية” للتعامل مع هذا الملف؟
لكن إذا اختار بايدن تغيير مساره، فما هي خياراته الواقعية؟ أولاً، يُدرك بايدن أن 75% من اليهود الأمريكيين سيصوّتون له بغض النظر عما سيفعله مع نتنياهو. حيث شعر هؤلاء الـ75% بالصدمة مما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهم قلقون من تأثيرات ذلك الهجوم عليهم، لكنهم ليسوا متعاطفين بدرجةٍ كبيرة مع نتنياهو وحربه على غزة٬ وهو الذي تجاهلهم وعاقبهم بالحرمان طيلة سنوات.
ويمتلك بايدن 6 أدوات في جعبته بشكل أساسي٬ بحسب بينكاس:
1- يمكنه فك ارتباطه تماماً وأن يقول لإسرائيل: “لقد بذلت قصارى جهدي، فافعلوا ما تريدون، واتصلوا بي على رقم 1-202-456-1414 عندما تكونون جادين”، كما فعل جيمس بيكر الثالث (وزير الخارجية الأمريكي السابق) عام 1990. لكن هذا التصرف سيتجاهل البعد الإقليمي والمشاركة الأمريكية في ما يحدث.
2- يمكنه أن يعاتب نتنياهو علناً ويوجه له اللوم بسبب فشله في التعاون وتعريضه إسرائيل للخطر.
3- يمكنه إبطاء نقل الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل.
4- يمكنه الامتناع عن التصويت أو حتى دعم مشروع قانون يطالب بوقف إطلاق النار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
5- يمكنه المطالبة بوقف إطلاق النار، وهو الأمر الذي امتنعت الولايات المتحدة عن فعله بكل وضوح حتى الآن.
6- أما الخيار “الأكثر جرأة” فهو: التنسيق مع السعودية ومصر والأردن والإمارات وقطر من أجل نشر رؤية الولايات المتحدة لشكل غزة بعد الحرب، بما في ذلك طريقة اندماج إسرائيل في ذلك المحور وتطبيع علاقاتها مع السعودية، ثم تقديم تلك الرؤية لإسرائيل دون مشاركة نتنياهو٬ كما يقول بينكاس.
الولايات المتحدة تخشى اشتعال المنطقة
وبحسب بينكاس٬ يبدو النهج الإقليمي أكثر نهجٍ واعدٍ هنا، لكن الولايات المتحدة ترى علامات تصعيد تنذر بالشؤم في المنطقة أيضاً. ففي الأسبوع الماضي، امتلأ خطاب السياسة الخارجية ووسائل الإعلام بمقترحات تتحدث عن أن الصراع الإقليمي الأوسع بالوكالة قد بدأ بالفعل، وأن زيادة التصعيد ربما أصبحت أمراً لا مفر منه.
إذ إن الضربات الأمريكية والبريطانية على الحوثيين في غرب اليمن والبحر الأحمر، وهجمات الميليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق، كلها أحداث تعكس اتساع رقعة الصراع. لكن تقديرات الولايات المتحدة العامة تشير إلى أن إيران لا ترغب في مواجهة مباشرة معها، وأن ما حصل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تلاها من تورط أمريكي كانا بمثابة “عائق وتعطيل” لاستراتيجية إيران الإقليمية.
ومن الواضح أن الحسابات الجيوسياسية لأمريكية تشمل بعداً اقتصادياً محورياً. حيث تحولت هجمات الحوثيين من مجرد مصدر إلهاء مزعج إلى تهديد حقيقي للأسواق، وتعريفات الشحن، وأسعار التأمين على الشحن، ووصل الأمر إلى تعطيل جزء من سلاسل التوريد العالمية. وقد أثر ذلك على مصر أكثر من غيرها: حيث تدر رسوم عبور قناة السويس إيرادات شهرية تقدر بـ743 مليون دولار، أي ما يعادل 9 مليارات دولار سنوياً.
ويصل سعر النفط حالياً إلى أقل من 73 دولاراً للبرميل (بالنسبة لخام غرب تكساس الوسيط). وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول، ارتفع سعر البرميل إلى 95 دولاراً وسط المخاوف من تصعيد إقليمي أوسع، لكنه تراجع تدريجياً. ثم ارتفع السعر بشكل طفيف في الأسبوع الماضي بعد الضربات الأمريكية البريطانية على الحوثيين، ونتيجة الشكوك في توسع الصراع وزيادة تعطيل حركة الشحن التجاري عبر البحر الأحمر وقناة السويس.
وتنظر الولايات المتحدة إلى ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول باعتباره “خط صدع” يفصل بوضوح بين محورين متضادين في الشرق الأوسط: محور الفوضى والإرهاب وعدم الاستقرار الذي تقوده إيران وتدعمه روسيا، بمشاركة سوريا وحزب الله وحماس والحوثيين وميليشيات العراق، في مواجهة محور النظام الذي تقوده الولايات المتحدة مع إسرائيل والسعودية ومصر والأردن والإمارات وقطر، إلى جانب السلطة الفلسطينية. ويركز جزء من الجهود الأمريكية لتعزيز هذا المحور على إبرام اتفاق أمريكي سعودي إسرائيلي فلسطيني مُعدّل. وهنا تتشابك القضيتان معاً: الصراع الإقليمي وتعنُّت نتنياهو٬ كما يقول بينكاس.
وسيتعين على بايدن أن يتخذ قراره ويصحح مساره قريباً، وقريباً جداً. ولن يأتي ذلك على حساب الدعم الأمريكي لإسرائيل بحسب القنصل الإسرائيلي السابق، لكنه سيأتي على حساب نتنياهو الذي لم يعد يخدم المصالح الإسرائيلية ولا الأمريكية، بل صار يخدم مصالحه الشخصية فقط.