رغم مطالبات الولايات المتحدة، وحتى مؤسسة الجيش من المستوى السياسي في الحكومة الإسرائيلية والكابينيت، بتحديد الأهداف العسكرية والسياسية للحرب التي تشنها بشكل هستيري في قطاع غزة، وبشكل متواصل في الضفة الفلسطينية، إلا أن بنيامين نتنياهو يتهرب من الإجابة ليس لأن أهدافه مشوشة أو غير واضحة، بل لأنها تحدث شقاقا بينه وبين واشنطن من جهة، وبينه وبين مؤسسات الدولة الإسرائيلية، وحتى أحزاب وقوى سياسية، وقطاع واسع من الجمهور الإسرائيلي. وإحاطة تلك الأهداف بشيء من الغموض، أو تغليفها بالقول، إنها تهدف إلى تفكيك حماس سياسيا وعسكريا، ما هو إلا محاولة لإخفاء حقيقة أهداف الحرب لدى نتنياهو ومكونات حكومته التي ترتكز لأغلبية 64 صوتا برلمانيا، أي الحكومة التي تعتبر الأكثر تطرفا في إسرائيل منذ نشأتها، وهي الحكومة الأصيلة، أي غير حكومة الطوارئ التي انضم إليها حزب معسكر الدولة بزعامة بيني غانتس.
الحقيقة التي لا غبار عليها، هي أن بنيامين نتنياهو قد وجد في الحرب ضالته من أجل الهرب من سقوطه السياسي، بعد أن وصل إلى حد الاصطدام مع جمهور واسع، ومع واحدة من أهم مؤسسات الدولة الإسرائيلية، نقصد القضاء، وكان ذلك طوال الفترة التي سبقت السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولهذا أيضا هو يماطل ويريد أن تستمر الحرب أطول فترة ممكنة، مستغلا دخول الولايات المتحدة، التي تحيط إسرائيل بكل الحماية العسكرية والسياسية، مهما توغلت في التطرف واستفزاز المجتمع الدولي، كما أن الحقيقة أيضا، هي أن نتنياهو قد تعلق في هذه الحكومة بالذات بعنقي كل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، أي أن برنامجه السياسي، منذ قاد اليمين الإسرائيلي قبل نحو ثلاثين سنة، قد وصل لآخره، وإذا كان اليمين الإسرائيلي وهو في الحكم، بعد ولاية اليسار التي جلبت أوسلو، قد أخرج إسرائيل من قطاع غزة، فذلك من أجل أن يطبق على الضفة الغربية، أي أنه ضحى بغزة، من أجل الاحتفاظ بالضفة، وبالطبع كان ذلك مجديا بالنسبة له، فإسرائيل الدولة الطامحة إقليميا ودوليا للتوسع والسيطرة، لديها كل مكونات القوة العسكرية والمالية/الاقتصادية، إلا أن نقطة ضعفها تكمن في المساحة الجغرافية الضيقة، ومساحة الضفة الغربية تبلغ نحو 20% من مساحة فلسطين التاريخية، في حين لا تتعدى مساحة قطاع غزة أكثر من 1،33 % من مساحة فلسطين.
ومن أجل فصل غزة عن الضفة، شجع نتنياهو الانقسام الفلسطيني الداخلي، وكان يراقب ما يجري داخله عن كثب وباستمرار، حتى أنه في فترة ما روج لفكرة دولة غزة، مع زيادة مساحتها على حساب سيناء أو عبر تبادل أراض ثلاثي، آخذا بعين الاعتبار أن يقتصر ذلك على أرض صحراوية من النقب، تلك التي تضطر إسرائيل لتقديمها من أجل مشروع يحتوي على دولة فلسطينية، لا تشكل أي خطر استراتيجي، ارتباطا بالجغرافيا، ومثل هذا السيناريو كان يوجب دولة منزوعة السلاح بالطبع، لا يمكنها أن تفكر في يوم من الأيام بالضغط على إسرائيل، ولا بأي شكل، لذا حاصرت إسرائيل القطاع طوال الوقت، ومنعت تطوره الداخلي، أي نموه الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وحتى غضت نظرها عن تنامي القوة العسكرية داخل غزة، وكانت تعالجها كل بضع سنوات بحرب ضد القطاع، تزيد من تدميره، ومنع تطوره، الذي كان يمكن أن يجعل منه رافعة الدولة الفلسطينية، خاصة من الناحية الاقتصادية، فغزة تطل على البحر بطول 50 كيلومترا، فيما الضفة الفلسطينية جغرافيا داخلية، محصورة بين إسرائيل والأردن، كذلك اكتشف الغاز مبكرا في بحر غزة، بما يعني أن استخراجه يعتبر دخلا رئيسا لدولة فلسطين.
تعايشت إسرائيل مع قطاع غزة في ظل سيطرة حماس لمدة ستة عشر عاما، ما بين عامي 2007 – 2023، على أن ذلك يعزز سيطرتها على الضفة والقدس، ويبقيها كدولة احتلال في واقع الأمر، لكن مع تحللها من تبعات ذلك، فهي تحاصر القطاع من ثلاث جهات، ومن الجو والبحر، وترى في المعبر بين قطاع غزة ومصر، ممراً يمكنه مع الوقت أن يدمج القطاع بمصر، وأن هذه الحالة ستظل تنتظر المتغيرات داخل إسرائيل وحولها، فإذا ما اضطرت لأسباب إقليمية ودولية إلى قبول قيام دولة فلسطينية، فهذه هي دولة غزة الفلسطينية يمكنها أن تحل لها المشكلة حينها، أي أنها ستكون أهون الشرين.
وما حدث خلال السنوات الماضية، التي تلت سيطرة حماس، إن كان ما بين فلسطين وإسرائيل من جهة، أو ما حدث من تحولات إقليمية كان الإخوان المسلمون ، وحماس منهم، لاعبا رئيسا فيها، كذلك ما رافق ذلك من انزياح داخلي إسرائيلي باتجاه اليمين المتطرف، وبالطبع لو أن الأمور انتهت إقليميا إلى غير ما انتهت إليه، أي لو أن الإخوان ظلوا في الحكم في مصر وتونس، ولو أنهم أكثر من ذلك واصلوا سيطرتهم على العالم العربي، لكانت حماس وغزة جزءا من ذلك الحكم، الذي ربما تقدم إلى حد توحيد بعض الدول العربية تحت حكمه، لكن ما حدث قد جعل من حماس حائرة بين المحاور الإقليمية، خاصة الدول العربية والإسلامية التي هي متحالفة مع الإسلام السياسي وبكلام أكثر وضوحا، حماس التي كانت تقيم في دمشق وتعتبر جزءا من محور الممانعة الذي كان يسمى هكذا إلى العام 2011، وجدت نفسها تنقلب على النظام السوري، بعد أن انحازت لـ”الإخوان” الذين حاولوا أيضا أن يسقطوا نظام الأسد في سورية، حماس هي نفسها عادت بعد فشل إخوان سورية وفشلهم بالاحتفاظ بالحكم في مصر وتونس، وجدت نفسها بين كل من تركيا وقطر من جهة وإيران من جهة أخرى.
في بداية الأمر كان تأثير قطر وتركيا كبيراً على حماس خاصة قيادتها السياسية، إبان محاولات كسر الحصار، ثم شيئا فشيئا، انتقلت إيران من رعاية الجهاد عسكريا حتى صار رقم 2 بعد القسام، إلى مد الجسور مع الجناح العسكري لحماس، أما إسرائيل، فقد تعاقبت عليها سنوات الاضطراب الداخلي، منذ العام 2019، حتى فاجأتها حماس يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فكانت فرصة للفاشيين الإسرائيليين، لإطلاق العنان لحقيقة أحلامهم وطموحاتهم السياسية، بحيث باتوا لا يفكرون فقط “بتطهير” الضفة الفلسطينية من الفلسطينيين، بل وحتى قطاع غزة، ظنوا أن الفرصة مواتية لإفراغه من السكان، إما بالقتل، أو التهجير الطوعي أو القسري، وهم يتابعون هذا المنحى منذ ذلك اليوم، بكل ما لديهم من قوة دمار شامل جهنمية.
لكن حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يمارسونها ضد غزة، لا تحجب حقيقة أنهم يواصلون حربا بلا هوادة ضد الضفة الفلسطينية، وضد الكل الفلسطيني، وإذا هذا كان يعني أنهم لا يستهدفون حماس أو مقاتليها في غزة، بل كل المواطنين، فإن حربهم ضد كل مدن وقرى ومخيمات الضفة، تؤكد أنهم قد أعلنوا الحرب لإغلاق الباب أمام الدولة الفلسطينية، ولولا حجم القتل والدمار الرهيب ضد غزة، لاعتبر كل الحقوقيين في العالم، ما تقوم به إسرائيل في الضفة جريمة حرب بكل معنى الكلمة، فإسرائيل تواصل عملية “كاسر الأمواج” منذ عامين في الضفة، وقد اعتبر العام 2023 حتى قبل 7 أكتوبر الأكثر دموية للشعب الفلسطيني في الضفة منذ 20 سنة، وقد استشهد منذ 7 أكتوبر حتى اللحظة نحو 400 مواطن بمعدل كل يوم 4 شهداء، وجرح أكثر من 4 آلاف مع اعتقال 6 آلاف، وهجرت إسرائيل ألف مواطن، وكان نصف العمليات العسكرية يجري بالشراكة بين الجيش والمستعمرين.
وأغلقت إسرائيل كل حواجز التفتيش، أي أنها تفرض الحصار على كل الضفة الغربية، وسحبت الفرقة 35 من غزة للضفة، التي توجد بها أصلا 3 فرق عسكرية، وما زالت تحجب أموال المقاصة، ورغم تحذيرات الجيش وواشنطن، من انفجار الضفة، يواصل نتنياهو الضغط على الضفة الغربية، وذلك في حرب على الكل الفلسطيني، إذا ما نجحت بسبب الصمت الدولي في تحقيق أهدافها بإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني، فإنها ستكون بمثابة المخاض الذي يؤدي إلى ولادة دولة بن غفير الفاشية، والتي لم تعد مجرد توقع، بعد أن وزع وزير الأمن القومي الإسرائيلي 50 ألف قطعة سلاح حتى اللحظة على المستوطنين، في حين لا يزال لديه طلبات بـ 130 ألفاً أخرى، تماما، كما سبق أن ولدت الدول الفاشية ستجر دولة بن غفير الشرق الأوسط لحرب إقليمية طاحنة، قد تجر العالم بأسره لحرب عالمية نووية.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0