الأغاني الشعبية الفلسطينية جزء كبير من تراث أرض فلسطين، فبجانب الأمثال الشعبية، تُعتبر الأغاني أحد أهم العناصر التي تؤرخ حياة الشعب الفلسطيني، وتُعبِّر عن القيم التي آمَن بها.
وعلى الرغم من تمتّع الذاكرة الفلسطيني بما يُعرف بـ«الخراريف»، وهي الحكايات الأسطورية والخيالية التي ترويها الجدّات للأحفاد، لكن خلت الأغنية الشعبية الفلسطينية من تلك الحكايات الخيالية، وفضّلت بدلاً من ذلك التعبير، بشكلٍ واقعي، عن حكايات هذا الشعب وهمومه ومشاكله.
لقد خلقت الظروف التي عاشها الفلسطيني بعد الاحتلال حالة دائمة من الحنين نحو الوطن، وكأن كل فلسطيني ورث نصيبه من تلك المأساة مهما كان، الأمر الذي جعل أغاني الحرية ترافق الفلسطينيين في جميع المناسبات؛ في الفرح قبل الحزن.
في رحلتنا هذه سنعرض حكايات أشهر عشر أغان فلسطينية وظروف كتابتها التي ارتبطت بحكايات واقعية حدثت في أزمنة مختلفة وظلت تُروى من جيل إلى آخر حتى وصلت إلينا.
1. ظريف الطول
يا ظريف الطول وقف تاقولك.. رايح عالغربة وبلادك أحسنلك
خايف يا ظريف تروح وتتملك.. وتعاشر الغير وتنساني أنا
ظريف الطول أو «زريف الطول» كما تُنطق باللهجة المحلية الفلسطينية، هي قصة حدثت في عصر الانتداب البريطاني في فلسطين.
بطلها شاب فارع الطول يعمل نجارًا، وكان يتسم بصفات طيبة كثيرة مثل الصدق والشجاعة، وفي يومٍ من الأيام حدث هجوم مفاجئ من إحدى العصابات الصهيونية على القرية، واستشهد ثلاثة من خيرة شباب القرية، الأمر الذي دفع بطل حكايتنا إلى التسلل ليلًا خارج القرية ليعود، بعد أيامٍ قليلة، وقد اشترى بكل مدخراته مجموعة من البنادق والمسدسات.
بعد أربعة أسابيع، عادت العصابة الصهيونية لنفس القرية، ولكن هذه المرة كان «ظريف الطول» قام بتوزيع الأسلحة على شباب القرية، واندلعت معركة كبيرة استشهد على إثرها عدد كبير من أبناء القرية، ولكن في المقابل سقط عدد أكبر من أفراد تلك العصابة.
أظهر «ظريف الطول» بسالة كبيرة في تلك المعركة، كان يهاجم بكل شجاعة ويسحب المصابين من أمام العصابات. بعد نهاية المعركة، وعندما جمع أهل القرية جثامين الشهداء اكتشفوا أن «ظريف الطول» ليس من بينهم.
انتظروه كثيرًا، لكنه لم يظهر أبدًا. لم يعرف أحد سر هذا الغياب، ومرّت الأيام بلا عودة، حتى صار هذا الشاب أسطورة تلك القرية، وغنّى له أهلها
يا ظريف الطول غايب عن الأوطان.. وغيابك عنا ملّى القلب أحزان
وارجع لأهلك وأرجع للحنان.. ما تلقى الحنية غير في بلادنا
2. جفرا وهيا الربع
جفرا يا هالربع نزلت على العين
جرتها فضة وذهب وحملتها للزين
جفرا ياهالربع ريتك تقبريني
وتدعسي على قبري يطلع بير مية
هناك عشرات الأغاني الفلسطينية التي تبدأ بكلمة «جفرا»، وكأنما أصبحت قالبًا غنائيًا يشبه العتابا والميجانا (قوالب موسيقية لبنانية).
قصة «جفرا» الأصلية تعود إلى قصة حب فلسطينية قامت قبل سنوات من النكبة، تحديدًا في عام 1939 في إحدى قرى الجليل، ووفقًا لبعض المصادر فإنها حدثت في عكا، وتحديدًا في قرية «الكويكات المهجرة».
بطل هذه القصة هو الشاعر أحمد عبد العزيز الحسن، والذي تقدّم لخطبة ابنة عمه «رفيقة»، وبالفعل تم الزواج بينهما، لكن بعد أسبوع هربت العروس إلى بيت أهلها، ورفضت العودة وفشلت محاولاته في إرجاعها، وأصرَّ أهلها على طلاق ابنتهم منه، وتزويجها لابن خالتها.
تباينت أسباب رفض العروس لأحمد، ما بين قائلٍ إنه كان يضربها بِاستمرار؛ ظنًا منه أنه بذلك سيقوم بتطويعها، أو أنها كانت ترفض هذه الزيجة من الأصل.
في جميع الأحوال، انفصل أحمد عن «رفيقة»، لكنّه بقي مُخلصًا في حبِّه لها، وتدفق منه الشعر يتغنّى بها حتى بعد الانفصال، لكنه اختار أن يُعبِّر عنها بِاسم «جفرا»، بسبب العادات والتقاليد التي تمنعه أن يُقرض فيها غزلاً صريحًا، بخاصة وأنها أصبحت زوجة شخص آخر.
بدأت فكرة هذه الأغنية، حين كان الشاعر أحمد في شرفه منزله، ورأى حبيبته تحمل جرة المياه وفي طريقها إلى العين، فارتجل تلك الأبيات:
وأصبحت هذه الأغنية من قوالب الغناء في فلسطين من وقتها وحتى يومنا هذا.
3. من سجن عكا طلعت جنازة
من سجن عكا وطلعت جنازة
محمد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يا شعبي جازي
المندوب السامي وربعة وعموما
محمد جمجوم ومع عطا الزير
فؤاد حجازي وعز الدخير
انظر المقدر والتقادير
بأحكام الظالم تايعدمونا
في صباح يونيو من عام 1930م، في مدينة عكا، تفجرت احتجاجات شعبية ضد الانتداب البريطاني. تصدّر الاحتجاجات ثلاثة شباب من الثوار الفلسطينيين، هم: فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير.
حاول البريطانيون زرع الخوف في قلوب الفلسطينيين، وكبح جميع حركاتهم الاحتجاجية فقاموا بالقبض على الشباب الثلاثة وأمروا بإعدامهم، ولكنهم استقبلوا الموت دون خوف، وردَّد حجازي أن الأمة، التي تقف في وجه بؤسها وتقاتل، هي أمة لن تموت أبدًا.
عُرِف يوم إعدامهم في التاريخ الفلسطيني بِاسم «الثلاثاء الحمراء»، وخلّد حكايتهم أكثر من شاعر، أبرزهم إبراهيم طوقان.
لكن بقيت قصيدة الشاعر نوح إبراهيم، رغم بساطتها الشديدة هي أشهر محاولة شعرية لتوثيق حكاية الأبطال الثلاثة، وتحولت قصيدته إلى أغنية شعبية شهيرة، سجّلتها «فرقة العاشقين» الفلسطينية في أوائل ثمانينيات القرن الماضي.
بعد هذه القصيدة، استمر الشاعر نوح إبراهيم في كتابة الزجل، واتّسعت شعبيته بشكلٍ كبير، حتى ضرب موعدًا مع الشهادة بدوره، خلال معركة في مدينة الجليل عام 1938م، وكان حينها لم يزل في الـ25 من عُمره.
4. طلت البارودة والسبع ما طل
طلت البارودة.. والسبع ما طل
يا بوز البارودة.. من دمه مبتل
قبل النكبة، كان رجال الثورة الفلسطينية يخرجون للدفاع عن القرى والمدن المجاورة بكل الوسائل المتاحة، ولأن المقاومة الشعبية تعتمد على قدراتها الذاتية في تمويل نفسها، فكانوا يبيعون أي شيء من أجل الحصول على بعض الأسلحة الخفيفة، مثل: المسدس والبندقية، والتي كانوا يطلقون عليها «البارودة».
في هذه الأوقات كان السلاح كنزًا لا يُقدّر بثمن، فكان الفلسطيني يعتني بـ«البارودة» جدًا وترافقه في جميع رحلاته الجهادية، وفي كل مرة يعود من أرض المعركة، كان أهله يستقبلونه بترحابٍ وهم يُغنون «السبع طل.. طل السبع»، ولكن من يستشهد في أرض المعركة ولا يستطيع رفاقه إعادته إلى أهله، فكانوا يعيدون البارودة الخاصه به.
ومن هنا، بزغت أغنية رثاء في حقِّ من عادت «بارودتهم»، ولم يعودوا معها.
5. عالأوف مشعل
شفت واحد واقف جنت البركة
حاكيتو عربي جاوبني بالتركي
نسوان بتحكي والاطفال بتبكي
مع مين نحكي تركي او الماني
عالاوف مشعل
دارت أحداث هذا القصة أثناء الحرب العالمية الأولى، في هذا الوقت كانت الدولة العثمانية تفرض سيطرتها على بلاد الشام وفلسطين وتقوم بتجنيد الشباب، بشكل إجباري، ليقاتلوا مع الجيش التركي في معارك لا تعنيهم في شيء، وكانوا يعفون من التجنيد الأثرياء الذين يدفعون مقابلًا ضخمًا لهذا الإعفاء، أما الفقراء فكان مصيرهم هو السفر والحرب وفراق الأهل والأحباب.
مشعل كان أحد الشباب الفلسطينين الذين رفضوا التجنيد الإجباري فهرب، اختفى بالقرب من أحد عيون الماء في الجليل، ولكن ألقى الجيش التركي القبض عليه، ورغم محاولته الخلاص منهم عبر رشوة الضابط بعملة ذهبية، لكن الضابط أخذ القطعة الذهبية واعتقله.
لم يعد مشعل من الحرب، غاب بلا أثر، لكنه صار رمزًا لكل فلسطيني اختفي في بلاد الغربة بعيدًا عن أهله.
6. يا طالعين الجبل
يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح
ما بدي منكي لللكم خلعة ولا لالالا لابدي ملبوس بين للل يامان يامان عين للل الهنا يا روح
التشفير والعبارات المشوشة والتي تبدو لك وكأنها غير عربية، هي نوع من الأغاني الفلسطينية القديمة التي كانت تستخدم كرسائل بين المقاومين المعتقلين وأمهاتهم دون أن يفهم السجّان والمحتل رسائلهم ويعرف أسرارهم.
ومنها الأغنية الشهيرة «يا طالعين الجبل»، والتي أضافت فيها النساء مع كل كلمة من كلمات الأغنية حرف اللام، كنوع من التمويه لجنود الاحتلال».
وفي هذه الأغنية تقوم الأمهات بتبشير المعتقلين بأن الفرج قريب، وأن المقاومة ستقوم بعملية لتحريرهم، هذه الطريقة اتّبعتها العديد من الأغاني الفلسطينية الأخرى، مثل «ترويدة شمالي».
7. حيد عن الجيش يا غبيشي
حسناء: حيِّدْ عنِ الجيشي يا غبيشي قبل الحناطير ِ ما يطلُّوا
غبيشي: وَاحَيِّدْ عن ِ الجيشي لويشي ولْ يِقحَم غبيشي يا ذلُّو
تحكي هذه الأغنية عن المطاريد الفلسطينيين في فترة الانتداب البريطاني، فغبيشي شاب شجاع وسيم كان يحب فتاة تدعى «حسنا» سليلة عائلة كبيرة.
حكي هذه الأغنية عن المطاريد الفلسطينيين في فترة الانتداب البريطاني، فغبيشي شاب شجاع وسيم كان يحب فتاة تدعى «حسنا» سليلة عائلة كبيرة.
تقدّم غبيشي لخطبتها ولكن أهلها رفضوه لأنه من قبيلة غير معروفة، وفشلت جميع محاولات غبيشي وتوسطاته، فتزوّجها دون موافقة أهلها، وهرب بها بعيدًا.
رغم ذلك، عاش غبيشي و«حسنا» في خوف من أن يعثر عليهما أهلها، فقررا أن يتناوبا في السهر كل ليلة يحرس كل منهما الآخر.
استنجد أهل «حسنا» بالقائد الإنجليزي «جون غلوب» قائد قوات شرق الأردن، وكان العرب يُسمّونه «أبو حنيك»، بسبب إصابته برصاصة في فكه السفلي، خلّفت ندبة واضحة عليه.
أقسم «أبو حنيك» على إحضار غبيشي حيًا أو ميتًا، وخرج للبحث عنه مصطحبًا مع كتيبة كاملة.
ما أن داهَم الجنود منزل غبيشي، شعرت بهم «حسنا»، فأيقظت زوجها من نومه، وطلبت منه أن يهرب و«يحيد عن الجيش»، فاستيقظ غبيشي ودار بينهما حوارٌ، تحوّل لاحقًا لأغنية تراثية انتشرت في كل مكان بفلسطين.
8. يا يمة فيه دقه ع بابنا
يا يمه في دقه ع بابنا ** يا يمه هاي دقة أحبابنا
يا يمه هاي دقة قوية ** يا يمه عشاق الحرية
هذه الأغنية التي انتشرت بصوت «أبو عرب»، مغني الثورة الفلسطينية الكُبرى 1936م، كانت قصة حقيقية حدثت في سبعينيات القرن الماضي لبطل فلسطيني اشتهر بِاسم «بلال»، هُجِّر من بلدته في بيت لحم إلى لبنان.
بعد رحيله بعدة سنوات، تسلل مرة أخرى إلى فلسطين لينفذ مجموعة عمليات ضد الاحتلال، عُرِفت فيما بعد بمجموعة «777». في الليل شعر بلال بأن عليه أن ينزل إلى قريته في بيت لحم ويرى أمه قبل أن يغادر، وحين دق الباب ردّت عليه أمه سائلة «مين؟!»، فأجابها «ابنك بلال»، فلم تصدِّقه!
وكان ذلك، بسبب ما أُشيع، في وقتٍ سابق، أن بلال قد استشهد في معارك جنوب لبنان، فأقام أهله عزاءً له استقبلوا في المُترحِّمين على موته!
اعتقدت الأم أن الاحتلال ينصب لها كمينًا ليكشفوا من يتعاون مع الفدائيين، ولم تفتح الباب، فذهب بلال إلى جارته وأخبرها بما حدث، فعادت معه إلى منزله ودقوا على الباب مُجددًا، وهذه المرة شرحت الجارة لأم بلال الموضوع، وأن من على الباب هو ابنها بالفعل، ففتحت له واحتضنته وقبّلته ثم قبّلت بندقيته.
بعد عودة بلال إلى لبنان، التقى هناك بالفنان أبو عرب، وحكى له عن هذه القصة فكتبها وغناها.