مع إصراره على مواصلة حربه المدمرة على غزة، جاء قرار مجلس الأمن الأخير الذي يدعو لوقف إطلاق النار في القطاع خلال شهر رمضان، ليواصل نتنياهو عدوانه على المدنيين دون وضع لأي اعتبارات سياسية أو قانونية أو حتى أخلاقية.
لم تستخدم الولايات المتحدة الفيتو لإحباط صدوره، كما فعلت في مرات سابقة، إلا أن ذلك جاء ضمن اعتبارات وظروف، تؤكد عدم الانحراف عن سياستها الداعمة لإسرائيل بشكل أعمى.
إلا أن القرار يعد ركيزة دولية مهمة لمحاسبة إسرائيل، انطلاقاً من اعتبارات تتعلق بطبيعته. كما أن هذا القرار يدعم التوجيهات الدولية الرسمية التي بدأت تتصاعد في الآونة الأخيرة ضد عدوان إسرائيل على غزة، ومن قبل دول غربية شريكة وحليفة لإسرائيل، في تجاوب رسمي واضح مع التحركات الشعبية التي اجتاحت العالم بعد العدوان على غزة.
تأتي جميع تلك التطورات الدولية في مواجهة نتنياهو وحكومة الحرب التي يقودها في ظل اضطرابات داخلية إسرائيلية تواجه نتنياهو، فهل تلتحم عوامل الانفجار الذاتية في إسرائيل مع تلك الخارجية الدولية لتسقط مخططات نتنياهو الجهنمية ضد غزة؟
يوم الإثنين الماضي، نجح مجلس الأمن، في إحراز تطور مهم، وذلك باعتماده قرار ٢٧ ٢٨ الذي يدعو لوقف فوري لإطلاق النار في غزة خلال شهر رمضان، والإفراج عن المحتجزين وضمان وصول المساعدات الإنسانية للغزيين، بتأييد جميع أعضاء المجلس، باستثناء الولايات المتحدة التي امتنعت عن التصويت، ولم تستخدم الفيتو، ما سمح بصدوره. وكانت صيغة القرار التوافقية بين الأعضاء بما فيها الولايات المتحدة هي التي سمحت بذلك، دون اعتراض من قبل واشنطن كالمعتاد.
ويشير ذلك التوافق الأميركي في إطار ذلك القرار إلى أن واشنطن تواصل تبني مواقف سياسية أكثر مرونة من تلك التي تبنتها منذ أكتوبر الماضي.
ورغم أن القرار طالب بالإفراج عن “الرهائن”، إلا أنه لم يشترط ذلك لوقف إطلاق النار، كما كانت تصر واشنطن من قبل.
إلا أن واشنطن رفضت اقتراح روسيا باستخدام وقف إطلاق نار “دائم” في صيغة القرار، وهو ما أدى إلى الاكتفاء بكلمة “فوري” ومحدد بشهر رمضان. كما أن عدم وجود كلمة تحدد طبيعة “الرهائن” في القرار، تجعل من إمكانية تفسيره واسعاً، ويشمل الفلسطينيين أيضاً. اعتبرت سفيرة واشنطن في مجلس الأمن أنها لم تدعم القرار بسبب عدم الإشارة فيه إلى إدانة حركة حماس، إلا أنها أكدت أنها تتوافق حول ما جاء فيه.
وكانت تلك المحاولة الرابعة، التي حاول فيها مجلس الأمن استصدار قرار يدعو فيه لوقف إطلاق النار في غزة منذ بداية الهجوم في أكتوبر الماضي، بسبب استخدام واشنطن للفيتو ثلاث مرات متتالية.
وتعلق السبب الرئيس وراء استخدام واشنطن الفيتو في المرات الثلاث، بعدم قبولها بفكرة وقف إطلاق النار، وإصرارها على هدنة إنسانية مرهونة بالإفراج عن المحتجزين في غزة، والذي يعكس موقف إسرائيل في المفاوضات مع حركة حماس، ونقلته واشنطن لمجلس الأمن.
بعد صدور قرار مجلس الأمن ٢٧ ٢٨ اعتبرت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيل أن “أي وقف لإطلاق النار يجب أن يأتي مع إطلاق سراح جميع الرهائن”، وأن الولايات المتحدة “تدعم بشكل كامل بعض الأهداف الحاسمة لهذا القرار غير الملزم”.
واجه ذلك التصريح انتقاداً كبيراً ومن قبل دول منها غربية على رأسها حلفاء في المجلس، واتهمت الولايات المتحدة بالتمرد على المنظمة الدولية وقرارتها.
إلا أن تلك التصريحات تعكس حقيقة الموقف الأميركي، إذ يصعب على الولايات المتحدة التخلي عن حليفتها الأقرب، مهما اختلفت معها، وإن كانت تحاول مداراة حقيقة موقفها، ببعض التصريحات الجوفاء، أو مرونة في بعض مواقفها، كعدم استخدامها للفيتو لإحباط قرار مجلس الأمن الأخير، لاعتبارات داخلية أميركية.
ويدعم عدد من الحقائق التي رصدت مؤخراً ذلك الانحياز الأميركي الأعمى لإسرائيل.
فقد أكدت الولايات المتحدة بمجرد امتناعها عن استخدام الفيتو لإحباط قرار مجلس الأمن، أن ذلك لا يعكس أبداً تغيراً في سياسة واشنطن تجاه إسرائيل.
ورفع مشروع قانون الإنفاق الذي أقره الكونغرس قبل أيام التمويل الأميركي لـ”الأونروا”، الذي يشكل حوالى ٣٠ في المائة من ميزانية الوكالة، في ظل ظروف حرب التجويع التي يشنها الاحتلال على غزة.
في المقابل تم إدراج المساعدات العسكرية لإسرائيل ضمن موازنة الدولة، رغم تصاعد الأصوات من داخل المؤسسة التشريعية نفسها، بضرورة التأكد من مدى توافق إرسال وبيع الأسلحة لإسرائيل مع قوانين البلاد.
في أعقاب صدور القرار، أعلن نتنياهو عن إلغاء زيارة رسمية لعدد من مستشاريه للبيت الأبيض، كانت معدة مسبقاً للتداول حول خطة اجتياح رفح التي ترفضها واشنطن.
وجاء موقف نتنياهو في أعقاب صدور القرار في محاولة لإظهار وجود خلافات علنية مع واشنطن، على الرغم من أن مداولات صياغة القرار طوال الأيام الماضية جرت بالتنسيق بين واشنطن وإسرائيل.
فهل تتعمد إسرائيل إظهار التوتر مع الولايات المتحدة كمقدمة لاجتياح رفح، ومحاولة لإعفاء أميركا من النتائج السلبية التي قد تصيبها والمتربة على ذلك الاجتياح داخلياً ودولياً؟
يعد القرار ٢٧ ٢٨ ملزماً لإسرائيل ولجميع دول العالم، إذ تعد قرارات مجلس الأمن ملزمة بحكم الميثاق، وتؤكد المادة ٢٥ منه وجوب قبول الدول بقرارات المجلس، بصرف النظر إن كانت قد صدرت وفق الفصل السادس أو السابع.
فهناك نوعان من القرارات تصدر عن مجلس الأمن، معظمها يأتي في إطار الفصل السادس، أي تلك التي لا تترتب على مخالفتها إجراءات تنفيذية عقابية عسكرية أو غير عسكرية، كتلك التي تصدر في إطار الفصل السابع، والتي تشمل النوع الثاني من قرارات المجلس.
ويأتي ذلك ضمن منطق التدرج في اتخاذ القرارات، وإعطاء فرصة للدول المخالفة لتعديل مواقفها قبل الذهاب للإجراءات العقابية.
وقد حدث ذلك في العام ١٩٩٠، حيث أصدر المجلس قراراً ضمن الفصل السادس يدعو العراق للانسحاب من الكويت، وبعد ذلك أصدر قراراً لاحقاً ضمن الفصل السابع، بعد رفض العراق الاستجابة للقرار الأول.
ورغم ذلك تبقى قرارات مجلس الأمن أسيرة لاعتبارات سياسية، تعكسها توجهات الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، صاحبة حق الفيتو.
ورغم تمرد إسرائيل كعادتها على تنفيذ القرار، فقد واصلت المجازر بحق الفلسطينيين، إلا أنه من الصعب التحرك وفق المادة ٣٩ من الميثاق وتحريك القضية في إطار الفصل السابع، في ظل الفيتو الأميركي، رغم أن عدوان إسرائيل على غزة يشكل تهديداً للأمن والسلم الدوليين دون مواربة.
ذلك الفيتو، الذي استخدمته واشنطن عشرات المرات من قبل، لإحباط صدور أي قرار يدين إسرائيل ويعرضها للمحاسبة، وهو الذي يفسر عدم التزامها بقرارات المجلس، على رأسها القرار ٢٤٢، والقرار الخاص بالاستيطان الذي صدر في العام ٢٠١٦، والذي صدر استثناء، بعد امتناع الولايات المتحدة عن استخدام الفيتو، في ظل علاقاتها التي توترت مع إدارة الرئيس باراك أوباما.
ورغم ذلك يعد قرار ٢٧ ٢٨ مهماً للغاية، فقرارات مجلس الأمن تنفذ من خلال إرادة الدول، فليس للأمم المتحدة جهاز تنفيذي عسكري، ما يعطي فرصة للدول لمعاقبة إسرائيل عملياً، في ظل استمرارها بحرب الإبادة والتجويع في غزة، وعدم التزامها بقرار مجلس الأمن، الذي يدعو صراحة لوقف إطلاق نار فوري، ليصبح الأمر من الآن فصاعداً مسؤولية دول العالم “الحر”، إن نجح في إثبات ذلك.
ولا يأتي فرض عقوبات من قبل الدول على الاحتلال بمبادرة فردية، لا تتعلق بالمؤسسة الدولية مباشرة، وإن استمدت شرعيتها منها، بالأمر الصعب، في ظل العزلة التي بدأ تعيشها إسرائيل.
نشرت مجلة الإيكونوميست قبل أيام على غلافها عنوان “إسرائيل وحدها”، وفي صحيفة جيروسالم بوست، ظهر مقال بعنوان “عزلة إسرائيل تتزايد”، وأشار وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى إن الهجوم على رفح سيهدد بفرض “عزلة أكبر” على إسرائيل.
وبحسب الإذاعة الإسرائيلية، فإن هناك دولاً لا توفر وسائل قتال إلى إسرائيل، وتقوم بـ”المقاطعة الهادئة”، وأعلنت أخرى أنها ملتزمة بقوانين بلادها التي لا تسمح ببيع الأسلحة لدول في صراع وحروب، ودول أخرى تترك إسرائيل تنتظر، كما أعرب مصدر أمني إسرائيلي عن الخشية من أن تؤثر العملية في رفح على المساعدات الأمنية الأميركية لإسرائيل، خصوصاً وأنها المصدر الأساس للذخيرة بالنسبة لإسرائيل.
وحتى بريطانيا حليفة إسرائيل الأقرب بعد الولايات المتحدة، شهدت منذ بداية الحرب على غزة تحركات نقابية وحقوقية لمنع تصدير أسلحة لإسرائيل، وهددت بريطانيا بالفعل بوقف تصدير السلاح، إذا لم تسمح إسرائيل لجمعية الصليب الأحمر بزيارة أسرى يعانون ظروف احتجاز شديدة القسوة.
ورغم رفض المحكمة العليا في لندن دعوى لتعليق تصدير الأسلحة البريطانية إلى إسرائيل في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، وقع ١٣٠ عضو برلمان بريطاني رسالة تطالب بحظر إرسال السلاح للاحتلال، مطالبين الالتزام بالقرار ٢٧ ٢٨.
تتراكم الضغوط على نتنياهو، فبالإضافة للتحديات الخارجية يواجه تحديات داخلية معقدة، فاستقالة ساعر من الحكومة والتي تعكس الخلاف بين أركانها في زمن الحرب، وتعقيدات إقرار قانون التجنيد الذي يعكس خلافات عميقة بين المتدينين والعلمانيين، والخلافات مع وزراء وقيادات أمنية في الصف الأول حول جدية نتنياهو في المفاوضات مع حركة حماس لإطلاق المحتجزين، وهي قضية محل خلاف في الشارع الإسرائيلي، تشكل مجتمعة تحديات أمام نتنياهو، عليه حلها، ليضمن استمرار حرب الإبادة التي لا يريد وقفها لاعتبارات تتعلق بمستقبله السياسي وبقائه وتحالفه اليميني في الحكم.
وتبقى الفرصة مهيأة أمام دول العالم في ظل تطورات صدور قرار مجلس الأمن ووجود قضية في محكمة العدل الدولية وإصرار نتنياهو بعناده لمعاقبته وحكومته ومحاسبتهم.