ماذا بعد رفح؟ فراس ياغي

ضمن الإستعصاء القائم في قطاع غزة ونحن على أعتاب دخول معركة “طوفان الأقصى” لشهرها الثامن، يتسائل العديد من المراقبين، وصناع القرار الإقليمي والدولي، ومجمل المحللين، الكثير من الاسئلة، واهمها:

هل هناك إمكانية لصفقة تبادل للاسرى؟

هل المشهد في إسرائيل وضغط أهالي وذوي الأسرى يشكل ضغط حاسم على نتنياهو وحكومته؟

هل هناك فرص لإيقاف الحرب المجنونة على قطاع غزة؟

ماذا سيكون المشهد في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب؟ او ماذا في اليوم التالي لما بعد الحرب؟

أعتقد أن الكل الدولي والإقليمي والفلسطيني وإلى حد ما الإسرائيلي، يطرح هذه الأسئلة، ويحاول ويجتهد لكي يجيب عليها، لكن ضمن المنظور القائم فإن السؤال المنطقي الممكن سؤاله الآن من وجهة نظري هو:

ماذا بعد رفح؟

لا يخفى على احد ان اي صفقة تبادل اسرى تعني نهاية الحرب، وأن نهاية الحرب تعني نهاية حكومة “نتنياهو”، وان ذلك يعني أيضا بحث جدي ووفق خطة تناقش اليوم التالي للحرب، ولا يخفى ايضا على أحد أن تحركات ذوي الأسرى والمتضامنين معهم يُشكل حالةمن الضغط وبالذات على وزراء مجلس الحرب “إيزنكوت” و “غانتس” و “غالانت” ولكن ليس على رئيس الوزراء “نتنياهو” حيث ضمن الموازين لدى “نتنياهو” تَرجح دائما كفة الوزيرين المتطرفين “سموتريتش” و “بن غفير” على عشرات الآلاف من المحتجين المطالبين بالتوصل إلى صفقة تبادل للأسرى، إضافة إلى أنه حتى الآن لم يتم تقديم تقدير موقف من قبل قيادة الجيش ورؤساء الأجهزة الأمنية للمستوى السياسي تطالب بوقف الحرب بشكل نهائي والذهاب نحو صفقة لتبادل الأسرى، صحيح أنه قبل أسبوعين هؤلاء في إجتماعهم مع وزير الدفاع “غالانت” وقالوا : ” إن الحرب في غزة وصلت إلى طريق مسدود” ولكنهم لم يطالبوا بوقفها.

هناك عدة معضلات في الداخل الإسرائيلي تمنع حتى الآن التوصل إلى صيغة تؤدي إلى صفقة تبادل أسرى بحيث يتم وقف العدوان على قطاع غزة وبشكل تدريجي، وخطة الثلاث مراحل التي وافقت عليها حركة “حماس” و فصائل “المقاومة” كان من الممكن أن تؤدي لوضع نهاية لحرب الإبادة التي تُمارس ضد قطاع غزة، ولكن الرد “الإسرائيلي” جاء عبر إحتلال معبر “رفح” وبدء عملية “رفح” من البوابة الشرقية للمدينة، وهذا التحرك السريع جاء ليعبر بشكل صارخ عن طبيعة الواقع الحاكم سياسيا وعسكريا في الداخل الإسرائيلي، حيث يتجلى ذلك في النقاط التالية:

أولا- بعد السابع من أكتوبر أصبحت القيادات العسكرية والأمنية ضعيفة وغير قادرة بل لا تجرؤ على تقديم تقدير للمستوى السياسي يطالب بوقف الحرب والذهاب إلى صفقة تبادل أسرى، بل هناك في الحكومة من يهاجمها ويطالب بإستقالتها.

ثانيا- حكومة الإئتلاف يتحكم فيها وزراء ” الصهيونية الدينية” و “العظمة اليهودي” وهذا ما يُخوّف “نتنياهو” وبالتالي يحكم أي قرار له إعتبار “سياسي” وليس وفق مصلحة إستراتيجية للدولة.

ثالثا- تمسك الوزراء “غانتس” و “إيزنكوت” بالبقاء في حكومة الطواريء و “مجلس الحرب” وتحت عنوان أن غالبية جمهورهم “61%” يرفض خروجهم منها.

رابعا- عدم تشكل ظاهرة شعبية كبيرة قادرة على الضغط على حكومة “نتنياهو” خاصة من جمهور المركز بالأساس، وبقاء الإحتجاجات والتحركات في نطاق ضيق بعض الشيء وغير قادر على إحداث تغيير يؤدي إلى قلب المشهد ومحاصرة اليمين المتطرفالصهيوني القومي والديني.

خامسا- السردية التي بدأت بها “إسرائيل” بإعتبار أن هذه المعركة هي “وجودية” وهي حرب “إستقلال ثانية”، دفع نحو طرح أهداف غير واقعية وأدى إلى عدم الحسم وإبقاء كل شيء تحت نفس العناوين، وهذا يخدم مفهوم البقاء للسيد “نتنياهو”.

سادسا- إرث “نتنياهو” والذي طالما تفاخر فيه، جاء السابع من أكتوبر/تشرين أول، لكي ينسفه كليا، وليراكم ذلك فوق ملفات الفساد المتهم بها، مما يدفع “نتنياهو” للبحث عن نصر موهوم أو كما يسميه النصر “الساحق” ليسجل في إرثه التاريخي أنه المُنقذ لدولة “إسرائيل” وأنه الوحيد الذي كان قادراً على إعادة الأمن والإستقرار للدولة.

سابعا- لا يوجد في الطبقة السياسية والعسكرية الحاكمة في دولة إسرائيل من هو قادر على إتخاذ قرار بوقف المعركة بسبب من الهزيمة المدوّية في زلزال السابع من أكتوبر/تشرين أول، والكل منهم متهم بذلك، وعليه تلتقي المصالح لإطالة أمد الحرب بدل أن يتم وقفها بسبب من الهزائم الإستراتيجية التي تتعرض لها الدولة ككل وليس فقط تلك السياسية والعسكرية الحاكمة.

ثامنا- الموقف الأمريكي الذي لا يمارس ضغط حقيقي على رئيس وزراء إسرائيل “نتنياهو” والإستعاضة عن ذلك بضغوطات ناعمة وغير حاسمة، وفي نفس الوقت إرتهان الدول الأوروبية والعربية المعتدلة للموقف الأمريكي، وبحيث أصبح الأمر كله هو في نطاق عملية إدارة المعركة بحيث لا تتوسع لتشمل الإقليم ككل، وكأن قدر “غزة” أن تبقى دماؤها تسيل مرة بغزارة ومرة بالتقطير دون أن يكون هناك مُسعف يوقفها.

إذا كان الأمر كذلك، وأن إمكانية وقف العدوان وتحت عنوان “لا منتصر” أو “الكل منتصر” غير ممكنة، إذا ماذا بعد رفح؟

أجزم أن الوحيد الذي يعرف ذلك هو السيد “نتنياهو” وكل ما يقال غير ذلك ليس سوى من باب تبسيط الأمر وكأن لا خطة حقيقية لديه، في حين على أرض الواقع نرى خطة “نتنياهو” تتشكل بالتدريج، وهذا يتضح مع وجود “الشريط الأمني” في الشمال والشرق، والآن يتم إستكماله بالسيطرة على “معبر رفح” والشريط الحدودي مع “جمهورية مصر”، إضافة للشارع الذي قسّم القطاع إلى قسمين والمسمى “محور نتساريم” حيث يتم بناء قواعد عسكرية ثابتة هناك، أي أن ما بعد رفح هو إحتلال كل قطاع غزة بشكل مباشر وغير مباشر، وفرض أمر واقع يؤدي الغرض الأمني من حيث السيطرة والتحكم بكل القطاع وفقا لما يجري في “الضفة الغربية” والتي هي تنتظر أيضا ما بعد “رفح”، حيث سيكون للسيد “نتنياهو” صولات وجولات في “الضفة”، بحيث ينتقل المشهد “الغزّي” إلى “الضفة الغربية” وتحت مفهوم مقاربة أمنية جديدة ستكون عواقبها كبيرة على سكان “الضفة” وبالذات مخيمات اللاجئين.

إن نجاح خطة “نتنياهو” في غزة والضفة سوف تكون الحافز الكبير له ليبدأ مغامرته نحو “الجنوب اللبناني” وبحيث يفاوض أولا من باب القوة والقدرة، أو من باب المغامرة العسكرية غير محسوبة العواقب، لكنها في نظره ستكون محدودة وينتج عنها صفقة غير مرتبطة بكل من “غزة” و “الضفة الغربية”، المهم لديه أنه إستطاع جلب الأمن لمواطني الدولة وحقق ما يُسميه ب “النصر الساحق”.

إن حُلم السيد “نتنياهو” لما بعد “رفح” سوف يطول أولا، ولن يتحقق ثانيا، وأخيراً سينقلب عليه وبالاً ليس على المستوى الفلسطيني والإقليمي والدولي، ولكن حتى على الداخل “الإسرائيلي”، لأنه سيكتشف أن سردية “نتنياهو” وعويدته المتطرفين جلبوا ليس العزلة الدولية والإقليمية، بل أيضا الدمار على الدولة من كافة النواحي.

ما بعد “رفح” سيكون إرث جديد فوق إرث “السابع من أكتوبر/تشرين أول”، يُسجل في سِجل السيد “نتنياهو”، بحيث تَحلّ عليه اللّعَنات ليس “الفرعونية” فحسب وإنما لعنات الرب “يهوة” من كل حدب وصوب، وتعرض الوجود “الإسرائيلي” للخطر الحقيقي، بعد كذبة الحرب “الوجودية”، خاصة أن “غزة” كانت وستبقى مقبرة للغزاة وهي عصية على أن يُطَوّعها لا “نتنياهو” ولا جيشه، ومحاولة فرض الأمر الواقع لن تُجدي نفعاً وسوف تتحول إلى حرب إستنزاف تشمل كل الجبهات وليس “غزة” فقط، لأن الكل يعلم أنه جزء من المُخطط ولكن لم يأتي الدور عليه بعد.

إذا ماذا بعد رفح؟

بالتأكيد فشل يَجرُّ فشل، فلا أسرى، ولا نهاية للحرب، وإستمرار مقاومة الإحتلال، وتحول حرب الإبادة إلى حرب إستنزاف تشمل جبهات مُتعددة، وتصبح كل “الضفة” و “القطاع” تحت الإحتلال المباشر مما سيعد الجميع للمربع الأول لما قبل “أوسلو” أي إحتلال وشعب يقاوم الإحتلال ولكن ضمن مُتغيرات كبرى على الصعيد العالمي ستكون بالتأكيد لصالح الفلسطيني. 

ما بعد رفح ليس سوى ضمور للقوة والعنجهية الإسرائيلية وتآكل للردع إن لم يكن نهاية كاملة له، فالقوة وغرور القوة ومزيدا من القوة المفرطة لن تكون سوى خراب كبير على من يستخدمها، خاصة مع كل المُتغيرات التي تحدث وتحول العالم من القطبية للتعددية بعد الهزيمة الحتمية المدوية والقادمة لِ “أمريكا” في حرب “أوكرانيا”.

ما بعد رفح، ليس سوى دولة ستحدد طبيعَتُها الجغرافية وحدودها وفقا للمعطى السياسي والعسكري، فإما أن تقبل “إسرائيل” بمفهوم الدولتين، وإما الدولة الواحدة التي يتحقق فيها المساواة بعيدا عن المشروع الصهيوني التي ستكون نهايته بسبب حماقات “نتنياهو” وإئتلافه الحاكم الذي يقود دولة اليهود نحو ما يسمونه خراب “الهيكل الثالث”.