تشعبت تبعات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتوالت وخرج تأثيرها عن نطاقها الجغرافي والإقليمي الضيق ليتردد صداه في كل عواصم العالم بما شهدناه من مسيرات لم تخلوا منها تقريبا أي بقعة من بقاع الأرض. جماهير حاشدة خرجت في الشوارع مطالبة بوقف لإطلاق النار وإنهاء الحرب التي جاوز عدد ضحايا الثلاثين ألفا اغلبهم من النساء والأطفال. وشهد العالم حشودا غير مسبوقة في مدن وعواصم غربية نذكر منها لندن وباريس وبرشلونة على سبيل المثال لا الحصرـ هذه الحرب التي جاوزت نصف عامها الأول والتي لم تحرز فيها إسرائيل أيا من أهدافها المعلنة التي ذكرها مسؤوليها العسكريين وأعضاء حكومتها مرارا وتكرارا. إنجازات تمثلت بالقضاء على حركة المقاومة الإسلامية حماس، وتحرير الرهائن الإسرائيليين الذين لازالوا حتى اللحظة رهائن في غزة والذين لم تتمكن حكومتهم برغم ضراوة القصف و تدمير بنية القطاع التحتية، لم تمكن من العثور على أي منهم ولا تحرير أيا منهم خارج نطاق التفاهمات التي حدثت في بداية الحرب وما زال الكثيرون منهم يقعون ضحية تعنت إسرائيل ورفضها للعديد من المقترحات وقلبها للحقائق في محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي المحمومة للسباق مع الزمن للحصول على أي انجاز لم ير منه شيئا سوا تدمير ممنهج للقطاع ومذابح بشعة بحق المدنيين. وفي مواجهة تعنت إسرائيل وعدوانها تنوعت الاحتجاجات العارمة وتشعبت واختلفت أشكالها بحيث رأى البعض في المقاطعة الاقتصادية لشركات تدعم الكيان الصهيوني طريقا للتعبير عن اعتراضهم على ما ترتكبه إسرائيل في غزة دون حسيب ولا رقيب، ورأينا إيرادات هذه الشركات العابرة للقارات تتقهقر في وجه المقاطعة الشعبية في كثير من مدن العالم، لا بل اضطر بعضها لإقفال نشاطه في مدن كانت حركة المقاطعة فيها قوية التأثير. بينما رأى آخرون أهمية لتصعيد الموقف الاحتجاجي فكانت وجهتهم محكمة العدل الدولية لمقاضاة دولة الاحتلال التي وفقا لما قدمته جنوب إفريقيا في دعوى قضائية مطالبة باتخاذ إجراءات ضد إسرائيل يقول القائمين على هذه الدعوى بـأن الأخيرة ارتكبت وترتكب “إبادة جماعية في قطاع غزة” في محاولتها القضاء على حركة حماس فيما تلى هجمات السابع من أكتوبر من العام المنصرم. احتجاجات تشعبت وتنوعت نشهد منها اليوم أهمها وأكثرها تعقيدا ومرشحا للتصعيد ألا وهو الحراك الطلابي الأمريكي والعالمي، والذي حتى حين كتابة هذا المقال لا زالت الولايات المتحدة الأمريكية تشهده. هذا الحراك الذي وصف من قبل المراقبين بأنه “غير مسبوق”، وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ب”المروع”، واصفا المشهد ب” هجوم حشود معادية للسامية على الجامعات الأمريكية الرائدة يدعون لإبادة إسرائيل”. فقد شهدت أمريكا حراكات طلابية مماثلة فيما اتصل بمشاركتها في الحرب العالمية الأولى والثانية وفي ما اتصل أيضا بالحرب الأمريكية على فيتنام ولكن هذا الحراك تحديدا مغاير وذلك لتعقيدات المشهد المتصل بكونه حراكا يمس أساسا من أساسات السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط ألا وهي ثابت الدعم الأمريكي لإسرائيل منذ النشأة وإلى يومنا هذا بلا خطوط حمراء ولا سقف لهذا الدعم ولا مدى، وهذا نقل المعركة لتصبح معركة على الساحة الداخلية الأمريكية وجدالا صاخبا يطال الدعم الغير مشروط لدولة الاحتلال. فقد انخرط الطلاب الأمريكيين وفي مجموعة كبيرة من الجامعات الامريكية في اعتصامات طلابية تناشد هذه الجامعات بقطع صلاتها مع دولة الاحتلال وعن الإفصاح عن مقدار استثماراتها في إسرائيل او تمويل إسرائيل لأبحاث في هذه الجامعات تساهم من قريب أو بعيد في دعم حرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل, كما طالبو بقطع التعاون الأكاديمي معها، جنبا إلى جنب إلى مطالبة صناع القرار الأمريكي لإيقاف الإبادة في غزة, توجه لم نره منذ السابع من أكتوبر لا بل منذ نشأة دولة إسرائيل وما تلقته ولا زالت تتلقاه من دعم أمريكي غير مشروط ماديا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا من الولايات المتحدة الأمريكية. وشهدنا في الفترة الأخيرة استخدام أمريكا لحق النقد الفيتو في مجلس الأمن في وجه كل وأي من المحاولات المحمومة من قبل الدول العربية والغربية لوقف شلال الدماء المرعب في قطاع غزة، ووقفت أمريكا لكل هذه المحاولات ولا زالت بالمرصاد.
ولعل توقيت هذه الاحتجاجات وكمها وسرعة انتشارها وطريقة التعاطي معها تشكل إرباكا للإدارة الأمريكية المقبلة على انتخابات رئاسية قد يكون فيها الرئيس الأمريكي جو بايدن في أمس الحاجة لأي وكل من هذه الأصوات الشابة التي قد تكون اليوم أبعد ما يمكن عن التصويت له كردة فعل على مواقف إدارته المنحازة تماما لإسرائيل وما ترتكبه من جرائم بحق المدنيين العزل في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة. وبينما صدحت حناجر ألاف الطلاب مخاطبين حكومتهم وقمعها لاحتجاجاتهم قائلين “انتم لا تخيفونا” رد مسؤولين كالسيناتور الأمريكي ماركو روبية قائلا “إن هؤلاء الطلاب لا يريدون فقط تدمير إسرائيل لكنهم يريدون تدمير أمريكا.”
ولعل المفارقة التي جعلت صدى هذا الحراك اشد تأثيرا في محيطه الأمريكي وحافزا لنظرائه من الطلاب حول العالم هو أن هذا الحراك بدأ وانتشر من جامعات “النخبة” الأمريكية. جامعات مثل هارفرد وييل وبرنستون وعلى رأسها جامعة كولومبيا والتي يرتادها تاريخيا أبناء الأثرياء وأصحاب النفوذ ليس فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، بل من أنحاء كثيرة حول العالم. حيث وقف الرئيس الأمريكي والكثير من صناع القرار في واشنطن موقفا صارما من هذه الاحتجاجات وصفوها بالكراهية لليهود وبمعاداة السامية وهذا تماما ما قاله رئيس مجلس النواب مايك جاكسون في زيارة قام بها لحرم جامعة كولومبيا بعد بدء الاحتجاجات هناك قائلا “بأننا لن نسمح لهذا النوع من الكراهية ومعاداة السامية للازدهار في جامعاتنا ويجب القبض على من قاموا بهذا العنف.” وتعهد في ذات الخطاب على أنه لن يسكت وهو يرى الطلاب اليهود “يركضون للنجاة بحياتهم او يبقون مختبئين في بيوتهم خائفين.” ضاربا عرض الحائط ما مر ويمر به ملايين الفلسطينيين المحتجزين كرهائن في قطاع غزة تدكهم آلة الحرب الإسرائيلية بلا هوادة غير آبهة بأدنى معايير الإنسانية ومغمضة أعينها عن اية قوانين أو اعراف دولية. وذلك لمعرفة صناع القرار في دولة الاحتلال بأن إسرائيل هي طفل أمريكا المدلل الذي ستنصره مهما استبد واستشرى ظلمه. لكن فزاعة معاداة السامية لم تعد تجدي في هذا الحراك فقد خرج السيناتور الأمريكي بيرني ساندر ليرد على من وصفوا الاحتجاجات بمعاداة السامية ومنهم رئيس الوزراء الإسرائيلي حيث قال ساندر” لا سيد نتنياهو هي ليست معادية للسامية ولا دعما لحماس آخذين بالاعتبار بأن حكومتك المتطرفة قد قتلت في الأشهر الستة الماضية 34 ألف شخص وجرحت 78 الف آخرين 70% منهم من النساء والأطفال. التذرع بمعاداة السامية تعصب مثير للاشمئزاز الحق ضررا بالملايين، لا تهينوا ذكاء الأمريكيين بمحاولة صرف انتباهنا عن سياسات الحرب غير الأخلاقية لحكومتكم.” ولعل واصفي هذه الاحتجاجات بمعاداة السامية لا يدركون بأن بين هؤلاء الغاضبين مجموعة من اليهود الذين يناهضون سياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين. لكن إسرائيل تنقل هؤلاء من خانة معاداة السامية لتضعهم في خانة ما يطلق عليه “self hating jew” أي اليهودي الكاره لنفسه.
أما في البيت الأبيض فقد انتقد الرئيس الأمريكي هذا الحراك الطلابي بأقسى العبارات وقال في خطاب له بأن هذه الاحتجاجات “لن تجبره على إعادة النظر في السياسات الأمريكية.” ولعل هذا التعليق يعيد للذاكرة احتجاجات طلاب أمريكا في ابريل من العام 1968 حين عم غضب عارم الأوساط الطلابية الأمريكية بسبب حرب فيتنام واستهداف كمبوديا وشكل نقطة تحول هام في السياسات الأمريكية الخارجية أدت لاحقا لإيقاف الحرب الأمريكية على فيتنام. وهذا ما قد تخشاه الولايات المتحدة الأمريكية وهي تقف في وجه مد عارم من شباب متعلم غاضب، شباب هم من أبناء المؤثرين سياسيا واقتصاديا في مفاصل المجتمع الأمريكي، لكن أطراف المعادلة هنا ليست أمريكا وفيتنام، بل أمريكا وطفلها العضوي المدلل الذي لا يمكنها في المدى المنظور ان تتخذ أيا من الإجراءات التي من شأنها تغيير سياساتها الخارجية تجاهه. فقد ارتأت الولايات المتحدة الأمريكية التعامل بحزم وعنف تجاه هؤلاء الطلاب، بل فضت قوات الشرطة الأمريكية في مواقع مختلفة اعتصامات الطلاب بالقوة مستخدمة قنابل الغاز المسيل للدموع ومعتقلة مئات الطلاب في كاليفورنيا وتكساس ونيورك وغيرها من الولايات التي انضمت لهذا الحراك الطلابي الذي لا زال مشتعلا.
بغض النظر عن نتائج هذا الحراك الطلابي الذي بدأ أمريكيا وطال دولا أوروبية وغيرها حول العالم ليجعل فئة الشباب الذي اعتقدنا لزمن طويل بأنه تغيب عن مشهد التأثير في سياسات بلاده الخارجية للواجهة مرة أخرى فمعتصمي اليوم هم قادة الغد، وهم بداية للتغيير ولا يعد حراكهم زوبعة شبابية ستختفي في فنجان العجرفة الأمريكية وازدواجيه معاييرها دون ان تحدث أثرا. ومن المهم القول بأن الاستثمار في هذا الحراك يعد مهما جدا لما قد يترتب عليه من تغيير وإن كان بطيئا وعلى أمد طويل لكنه تغيير هام وجذري يعيد للفلسطينيين ما منعت الولايات المتحدة الأمريكية الشعب الفلسطيني من الحصول عليه من حق بالعيش بحرية وكرامة.
– نقلا عن مجلة الدبلوماسي المصرية
باحثة وكاتبة [email protected]