جنون إسرائيل: جمود الساحة الفلسطينية..

تواجه إسرائيل وضعاً لم يسبق له مثيل منذ قيامها. إنه أسوأ ما يمكن أن تحلم به القيادات الإسرائيلية في أفظع كوابيسها. فعدا عن الفشل العسكري الكبير في حربها ضد قطاع غزة والتي بعد مرور أكثر من سبعة شهور لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة: القضاء على «حماس» وتحرير المحتجزين في غزة وتحقيق الأمن لإسرائيل، هناك فشل أكثر خطورةً يتمثل بهزيمة معنوية وسياسية غير مسبوقة ستؤثر على مكانة إسرائيل التي تتدهور بشكل كبير ومتسارع وعلى موقعها دولياً. فالصورة التي رسمتها إسرائيل لنفسها واستطاعت تسويقها في العالم بدعم من حلفائها وشركائها الاستعماريين كدولة ديمقراطية ودولة قانون وتمثل «ضحية» لرغبة الفلسطينيين والعرب المزعومة في القضاء عليها وإزالتها عن الوجود، تحطمت إلى شظايا زجاجية متناثرة لا يمكن إعادتها للوجود من جديد.

أن تقف إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وتجد المحكمة دلائل تبرر هذه الدعوى التي رفعتها دولة جنوب إفريقيا وليس فلسطين، فهذه ضربة معنوية بالغة الأثر على وضع وصورة إسرائيل. ومهما سيكون قرار المحكمة الذي سيصدر ربما بعد سنوات، لن يكون بمقدور إسرائيل أن تمحو هذا العار وهذه الفضيحة التي وضعتها في المكان الصحيح الذي تستحق منذ عقود طويلة من الاحتلال والظلم الممارَس ضد الشعب الفلسطيني. كما أن صدور قرار يطالب إسرائيل بوقف عمليتها العسكرية في رفح، حتى لو لم يكن القرار قاطعاً ولم يصل إلى مستوى الأمر بإنهاء حرب الإبادة التي تشنها ضد غزة، يعني أن هناك متابعة حثيثة لما تقوم به قوات الاحتلال والحكومة الإسرائيلية من جرائم ضد الشعب الفلسطيني، ولا يقتصر الموضوع على ما جرى فقط ومتابعة مجريات الدعوى القضائية.
واللطمة الكبرى الأخرى كانت بطلب كريم خان مدعي المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الحكمة بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يوآف غالانت. هذه أيضاً سابقة خطيرة أخرى تعرض قيادات إسرائيل للملاحقة القانونية على مستوى العالم. وفي حال صدور قرار من هيئة المحكمة باعتقالهما فإنهما لن يستطيعا دخول معظم دول العالم بما فيها الدول الصديقة والحليفة لإسرائيل باستثناء الولايات المتحدة. بل إن الموضوع قد يتوسع ليطال عشرات القادة السياسيين والعسكريين في إسرائيل. تخيلوا الضرر المعنوي الكبير الذي لحق بإسرائيل من مجرد صدور قرارات من هذه المحاكم الدولية المرموقة القائمة على القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة.
وتوالت الضربات الواحدة تلو الأخرى وكأنه لا يكفي إسرائيل مأزقها على الساحة القانونية والإنسانية، لتتحول دولة منبوذة في الرأي العام الدولي. فقد خسرت إسرائيل الرأي العام الأميركي وإلى حد بعيد الرأي العام الأوروبي، وشكلت التظاهرات الضخمة المؤيدة للفلسطينيين ظاهرة يومية وأسبوعية في المدن العالمية الكبرى، عدا عن تمرد الجامعات بالولايات المتحدة وانتشار الاعتصامات في أوروبا. ما حصل ويحصل هو بمثابة رفع الغطاء الأخلاقي عن إسرائيل باعتبارها دولة احتلال مجرمة تخرق القانون الدولي وتنتهك كل المعاهدات والمواثيق والاتفاقات الإنسانية. ولم تعد إسرائيل تلك الدولة التي كانت تعتبر ظلماً واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط والنموذج الذي ينبغي محاكاته في دول المنطقة.
وفوق كل ذلك تأكل إسرائيل صراعات داخلية عميقة ستظهر بصورة أكثر حدة وفظاظة بعد انتهاء الحرب. ربما ما يوحد الإسرائيليين هو ما يعتبرونه استهدافاً لهم من قبل المنظمات الدولية والرأي العام الحر، حيث يروق لهم أن يسمّوا كل ادانة أو انتقاد معاداة للسامية، ويحاولون إلصاق تهمة كراهية اليهود في كل من يتعرض للجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وزاد الطين بلة اعتراف الدول الأوروبية اسبانيا والنرويج وايرلندا بدولة فلسطين في اعقاب اعتراف دول أميركا اللاتينية، والذي يبدو كأنه تسونامي جديد يحاول فرض الدولة الفلسطينية كأمر واقع دون تدخل إسرائيل.
كل هذه التطورات التي تجري في العالم دفعت إسرائيل إلى الهستيريا والجنون في ردود أفعالها، سواء تجاه الفلسطينيين بهجمات بربرية ودموية وتصعيد خطير في استهداف المدنيين في رفح وشمال القطاع على ما يبدو في إطار صراع مع الزمن، وأيضاً في التصريحات والمواقف المتناقضة التي يبدو جزء منها محاولة لامتصاص الغضب الدولي، والجزء الآخر على النقيض كتصريحات إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش التي تُظهر الوجه العنصري والدموي للسياسة التي تنفذها حكومة نتنياهو.
في مقابل الصورة السلبية الإسرائيلية والخسائر التي تلحق بإسرائيل، تبدو الصورة الفلسطينية باهتة وجامدة وأحياناً سوداوية، والسبب هو عدم قدرتنا على استثمار التحولات الدولية لترسيخ أسس الدولة الفلسطينية. وهذا الخلل يتبدى في جانبين: الأول، هو الفشل في تحقيق الوحدة الداخلية استعداداً لمرحلة ما بعد الحرب. وبالرغم من توافق المواقف السياسية تبدو المصالح الشخصية والحزبية هي التي تحكم سلوك الأحزاب والتنظيمات. وبدون وحدة وحكومة موحدة قادرة على إدارة الضفة والقطاع كإقليم جغرافي وسياسي واحد لا معنى للحديث عن دولة، وتصبح الاعترافات مجرد إعلانات على الورق. والجانب الثاني للخلل هو عدم قدرة السلطة على إصلاح نفسها وتلبية متطلبات القبول دولياً، والحصول على الدعم الحيوي للاستمرار وبناء المؤسسات القادرة على حمل مشروع الدولة. والمشكلة الأكثر تعقيداً هي أننا نحاول التشاطر أو عدم تقديم خطة واقعية قابلة للتنفيذ. والنتيجة أننا في مأزق كبير قد يؤدي إلى انهيار السلطة، عدا عن إمكانية ضياع فرصة تاريخية.