ليس رئيس حكومة حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هو من يبحث دون جدوى منذ ثمانية أشهر عن صورة للنصر فقط، بل يبدو أن شريكه الأقل منه سفورا في قيادة تلك الحرب، نقصد الرئيس الأميركي جو بايدن، بات يبحث هو الآخر عن صورة ما، لأي إنجاز يقدمه للناخب الأميركي، وذلك لأنه غير متأكد من أن كل ما قدمه لمجرمي الحرب الإسرائيليين من دعم ومؤازرة سيكون كافيا لبقائه في البيت الأبيض، ولهذا فهو يواصل منذ بداية الحرب بذل جهد عبثي من أجل تحقيق أحد أهداف نتنياهو من الحرب، والذي عجز هو وجيشه عن تحقيقه، وهو تحرير المحتجزين من قبضة حماس، دون تقديم الثمن الذي لا بد من دفعه لذلك، وهو وقف الحرب، وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة. وبايدن يسعى لهذا الهدف بسبب وجود خمسة أميركيين من بين المحتجزين الإسرائيليين.
ولأن بايدن قد فشل تماما في إقناع نتنياهو بتقديم أي شيء له، من بين العديد من المطالب التي يراها ضرورية من الجانب التكتيكي لاستمراره بالمشاركة في حرب يقف العالم كله ضدها، ويجرمها القضاء الدولي، لذا فهو وإدارته، بالتحديد أنطوني بلينكن، جيك سوليفان وجون كيربي، لجؤوا أولاً إلى الضغط على قطر ومصر من أجل توجيه الضغط على حماس، بما شمله ذلك التهديد من طرد لقيادة حماس من الدوحة، لإجبارها على الموافقة على صفقة استسلام، تفضي إلى تحرير محتجزيهم مقابل تسهيلات متواضعة، لا تشمل وقف الحرب وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وعودة النازحين لبيوتهم المدمرة وإعادة الإعمار، وهي المطالب الدولية التي صدرت حولها قرارات أممية، ثم لجأ بايدن وأركان إدارته إلى ممارسة الكذب والافتراء، بتحميل حماس مسؤولية عدم التوصل للاتفاق.
بلع بايدن وموظفو الإدارة الأميركية ألسنتهم، قبل نحو شهر حين وافقت حماس على مشروع الاتفاق بناء على الورقة المصرية، وذلك بعد أن رفضه نتنياهو، مع وجود وليام بيرنز مدير المخابرات الأميركية، والذي من بعدها لم يسمع أحد صوته، ربما لهذا السبب، وللالتفاف على الرفض الإسرائيلي، جرب بايدن الخديعة، من خلال بيع حماس الكلام الشفاهي والوعود الفارغة، وحين تبين له أن الحركة أوعى مما يعتقد، وأنها لن تخسر ما حققته من صمود في ميدان الحرب، بالسذاجة التفاوضية، لجأ بايدن وموظفوه إلى الكذب.
فعلى هامش قمة السبع بإيطاليا وخلال مؤتمر صحافي عقده مع الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، ادعى بايدن أن حماس هي العقبة أمام توقيع اتفاق صفقة التبادل، مع أن الحركة رحبت بقرار مجلس الأمن وبمبادرة بايدن نفسه، لكنها طالبت بتعديلات وصفها الأميركيون وبعض الإسرائيليين بالطفيفة، لكنها بالطبع مهمة، لأنها تضمنت وجود ضمانات بترابط مراحل الخطة، كذلك طالبت بوجود ضامنين دوليين للتنفيذ، غير أميركا المنحازة لإسرائيل، وحددت حماس كلاً من روسيا والصين وتركيا، وذلك لتفويت الفرصة على قطع الطريق على تنفيذ الصفقة بعد المرحلة الأولى، أي بعد إطلاق المحتجزين.
بعض الإسرائيليين علقوا على التعديلات الطفيفة التي طالبت بها حماس بأنها تؤكد عدم ثقتها بنتنياهو، وهذا صحيح بالطبع، وليس في السياسة هناك مكان للثقة بالكلام العابر خاصة مع كاذب ومخادع مثل نتنياهو، الذي أصر أولا على عدم الإعلان الصريح عن الموافقة لا على مبادرة بايدن ولا على قرار مجلس الأمن، بل اتبعه بتكرار إعلان إصراره على عدم وقف الحرب، والدليل الدامغ الذي يتجاهله بايدن هو انسحاب بيني غانتس وغادي آيزنكوت من مجلس الحرب، وبقاء إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش في حكومة نتنياهو، وهذا دليل على أن نتنياهو لم يوافق على خطة بايدن، وقد كان بن غفير هدد بإسقاط الحكومة، في حال وافق نتنياهو على مبادرة بايدن، لكن بايدن ينطبق عليه المثل الشعبي العربي، الذي يقول: «مش قادر ع الحمار ينط ع البردعة».
يحدث هذا كله، في الوقت الذي تأكد فيه تماما عبث استمرار الحرب على غزة، عسكريا وسياسيا، حتى أن الجيش الإسرائيلي بات منهكا تماما، وكما قال قائد المقاومة في قطاع غزة، يحيى السنوار إن حال إسرائيل ليس أفضل من حال الفلسطينيين فكلاهما يخسر يوميا جراء الحرب وعلى كل المستويات، حتى أن الحرب صارت حرب عض أصابع، أي أن إسرائيل بحاجة ماسة لوقف الحرب، أو أنها تسعى لاستراحة محارب، لمدة بضعة أسابيع أو عدة أشهر، تعيد خلالها «تنشيط» آلة الحرب، وربما تحقق خلالها وقف جبهات الإسناد لتعاود بعد ذلك الحرب في ظل الانفراد بغزة، هكذا يقوم بايدن بدور عراب حرب الإبادة، من خلال تحقيق الهدف الإسرائيلي بالوقف المؤقت للحرب، بعد أن صار الجيش الإسرائيلي بحاجة لذلك الوقف، وذلك مجانا، أي دون أن يدفع شيئا لحماس، موهما نفسه بأنه يمكنه أن يفعل ذلك بتهديدها، أو بخداعها، ولا يدرك أن حماس التي تواجه حربا ضروسا منذ 9 شهور، لا يمكن أن تخشى التهديد بالخروج من الدوحة، ولا كانت تنخدع هكذا ببساطة، لكانت قد رفعت الراية بعد 9 ساعات، ولم تصمد تسعة أشهر!
وبايدن يقوم هكذا بدور العراب المنقذ لإسرائيل حتى من «نفسها» أي من حسابات نتنياهو الشخصية، هو يريد وقفا مؤقتا للحرب، أي وفق مصلحة إسرائيل، ودون أن يدفع الثمن، وهذه رؤية منافية للصفقات، كما أنها لاغية للوساطة، وأميركا وسيط سيئ للغاية، والفلسطينيون يعرفونها جيدا، بعد 30 سنة من توسطها للتفاوض بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
ولا علاقة لدوافع بايدن بأي شعور بالذنب أو التعاطف الإنساني مع ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، لكنه يتخوف أيضا من تزايد احتمالات نشوب الحرب في شمال إسرائيل، أي بين إسرائيل وحزب الله، ذلك أن نتنياهو يحتاج لاستمرار الحرب للبقاء في سدة الحكم، وبعد أن تحولت حربه في غزة إلى حرب استنزاف لقواته، وإلى حرب عصابات، مع تواصل التنديد العالمي، ومواصلة رفع الدعاوى القضائية، التي ستثمر بعد حين بما هو غير مسبوق على طريق عزل إسرائيل دوليا، والجيش الإسرائيلي بدأ يطالب نتنياهو بشكل أكثر وضوحا بتحويل دفة الحرب إلى الشمال.
وبعد أن قال يفتاح رون طال اللواء في الاحتياط الإسرائيلي، إن إسرائيل خسرت الجليل، مشيرا إلى مغادرة سكان بلدات شمال إسرائيل، خاصة في إصبع الجليل، إلى داخل عمق إسرائيل، هربا من صواريخ حزب الله، اعتبر أن الحزب أنشأ بذلك منطقة أمنية داخل إسرائيل، وهي الدولة المعتادة على إقامة المناطق الأمنية داخل أرض الغير، في ذلك الوقت طالب الجيش وفق القناة 12 الإسرائيلية بإنهاء الحرب في رفح، والمضي قدما في الهجوم على لبنان، وفي تأكيد لهذا نقلت قناة» كان» عن مسؤول سياسي وصفته بالرفيع، عشية اجتماع كابينيت الحرب، قوله إن الأصوات تتعالى لتحريك مركز ثقل الحرب من الجنوب إلى الشمال، وقد تزايد حدوث هذا الاحتمال بعد إقدام إسرائيل على اغتيال القائد الميداني في حزب الله الحاج «أبو طالب» طالب سامي عبد الله، ورد حزب الله الأشمل والأوسع منذ بدء الحرب في الثامن من أكتوبر الماضي.
لم يقتصر رد حزب الله على إطلاق 250 صاروخا ومسيرة، ولكن تمثل التحول النوعي في إشعال الحرائق في أراضي إسرائيل الشمالية الزراعية، حيث احترق 60 ألف دونم، أكثر من ثلاثة أرباعهم خلال أيام حزيران الحالي المعدودة، بما يعني أن هذا تكتيك عسكري فعال لجأ له حزب الله، الذي أدار مع حماس والحوثي والحشد الشعبي، أي محاور المقاومة الإقليمية حرباً طويلة النفس، ومتعددة الجبهات باقتدار مع إسرائيل وأميركا، دون الحاجة إلى مشاركة ميدانية مباشرة من إيران، والنصر الجماعي الذي يتحقق الآن رغم عدد الضحايا من المدنيين في قطاع غزة، يشمل أيضا نجاح الحوثي حسب التقديرات الأميركية في تقليص نشاط الحاويات بنسبة 90% في البحر الأحمر.
ولأن نتنياهو ما زال يكابر، ويقدم مصلحته الشخصية، بدعم من فاشيي حزبي الصهيونية الدينية والقوة اليهودية، ومتطرفي الليكود، فإن إسرائيل تواصل الحرب، رغما عن تهالك جيشها واقتصادها، ورغم أنها للمرة الأولى في تاريخ حروبها في الشرق الأوسط التي يتعرض فيها مئات الألوف من مواطنيها لآثار وتأثيرات الحرب بشكل مباشر، تحديداً التهجير، إن كان في الجنوب، حيث بلدات الغلاف، أو الشمال حيث بلدات إصبع الجليل والجليل الغربي، وبهذا فإن نتنياهو قد يقدم على تغيير تكتيك الحرب، بنقل ثقل عمليات جيشه العسكرية من الجنوب في غزة، إلى الشمال مع حزب الله، وبذلك يكون المنجز الوحيد الذي حافظ عليه بايدن، وهو عدم توسيع رقعة الحرب، قد ذهب أدراج الرياح، وهذا دافع إضافي لبايدن ليستجدي صفقة التبادل، وليحاول التوصل إليها بأي طريقة وبأي شكل.