أكبر مفارقة ساخرة في التاريخ:
يُقتل أهل غزة ويدمَّر حتى الشجر والكتب والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والبيوت وذكريات البشر والساحات والطرق والبنية التحتية، لأن ذلك هو طريق الأمن والازدهار لغزة.
تلك رؤية القاتل، تلك رؤية القتلة!
لكن تُرى مَن سيصدق ذلك إذا كان هو غير مصدق ما يقول:
“غزة منزوعة السلاح وخالية من المتطرفين يمكن أيضا أن تفضي إلى مستقبل من الأمن والازدهار والسلام. تلك هي رؤيتي حيال غزة”.
يعني المعادلة عنده: احتلال قوي وشعب أعزل مستسلم يعيش بدون كرامة، فكل ما يحمله القاتل وعود بالطعام والماء، فهو يفكر بالشعب العريق انه مجرد سكان.
ربما رؤيته أن تحقيق ذلك يكون في مكان آخر خارج فلسطين، وعالم آخر غير دنيوي. ألم يسخر أحد القتلة من شهداء فلسطين قائلاً لنجعلهم جميعاً يذهبون الى الجنة؟ أو كأنه قال شيئاً من هذا القبيل، مذكرنا بمن طالب برمي قنبلة نووية على غزة.
في الحفلة الساخرة، التي ستترك أكبر أثر سلبي على المحتفلين، تجلت السخرية كما لم تتجلَّ من قبل، فحتى الأطفال أصيبوا بدهشة التصفيق المجاني لذلك الممثل الفاشل، الذي يستخدم كل “فنون النصب” التي أصلاً لا يجيد غيرها، ولعله فعلاً ممثل صادق “لنصب” الفكرة والمجتمع الاستيطاني في فلسطين.
ماذا كسبوا من حفلة التهريج التي ستشحن كتّاب المسرح، ليبدعوا في كتابات المسرحيات الساخرة، وللفنانين كي يرسموا بورتريهات الوجوه الكالحة؟ فقط ازدادت الصورة الأميركية لدى الشعوب سوءاً، وازدادت كراهية الشعب الأميركي لممثليهم، ومن يتحالفون معه في الداخل والخارج، أما دولة الاحتلال فستزداد عزلتها، لن ينفعها السلاح، وليس بالسلاح وحده يحيا الإنسان.
السلاح؟ هل قنبلة وزنها طنان تُرمى على المدنيين في قطاع غزة، ولا يجد القانون الأميركي ولا الدولي مجالاً لمحاكمة ساسة الولايات المتحدة؟ أولئك المصفقون هم من شرّعوا القتل، وهم من يسقطون الآن الولايات المتحدة وليس فقط دولة الاحتلال.
حمّل رئيس حكومة الاحتلال الولايات المتحدة، ممثلة بأعضاء الكونغرس، “جميلاً” بأن دولته تحميهم، لذلك، فقد طلب المزيد من السلاح، في الوقت الذي طالب بجعل غزة منزوعة السلاح. هذا مضمون خطاب نتنياهو، والباقي تفاصيل استعراضية لا معنى لها.
بشكل ساخر يثير السخرية استقبل أعضاء الكونغرس عبارات نتنياهو بالتصفيق، لدرجة أن الخطاب تقاسم بين العبارة والتصفيق الساذج غير الحقيقي والمتكلَّف والتمثيلي. ويمكن فقط للقارئ هنا العودة لمشاهدة خطاب نتنياهو ليحلل فعلاً بشكل موضوعي ظاهرة التصفيق الكاذبة التي تنسجم مع كذب المتحدث.
لا نتنياهو في أعماقه يشعر بالنصر ولا بالبطولة، ولا أعضاء الكونغرس كذلك، فالميدان العسكري في غزة هو من يقرر مَن هو الضحية ومن هم القتلة.
كلهم يعرفون كيف “علّمت المقاومة على جنود الاحتلال، وكلهم يعرفون أن ما نجحت به حليفتهم فقط هو قتل المدنيين وتخريب جميع أنواع الممتلكات بما فيها الأشجار والكتب والبيوت.
وكلهم يعرفون أن هذا الحليف غير قادر أصلاً على حماية نفسه، فكيف سيحمي الولايات المتحدة. كلهم يعرفون أن الاتصالات الأميركية الآن وغداً، والتي تجري في الخفاء، تجري من جهات أخرى يبدو أنها الأقوى؛ ومثال الأفلام الأميركية معروف في الانحياز للقويّ.
لذلك كله فإن الـ 58 تصفيقاً، جميعها مجرد تشجيع للحليف لا أكثر من ذلك، وما يعرفه نتنياهو أن كل التصفيقات لن تحقق له غاياته الشخصية الاستبدادية في الحكم، ولن تنقذ دولة الاحتلال.
نحن نحميكم!
أية سخرية تلك التي حدثت في الكونغرس الممثل للدولة الكبرى في العالم، وهو الذي يشدد على “أن أعداء إسرائيل هم أيضاً أعداء الولايات المتحدة، نحن لا نحمي أنفسنا فقط. نحن نحميكم، أعداؤنا هم أعداؤكم، معركتنا هي معركتكم، وانتصارنا سيكون انتصاركم”.
هو عزف سيئ على لحن بوش: مَن ليس معنا فهو ضدنا. أية أخلاق هذه التي تقرها الدولة الأولى في العالم؛ فهل فعلاً أن أعداء الاحتلال هم بالضرورة أعداء الولايات المتحدة؟ أية سذاجة تلك التي يستمع لها نواب الشعب الأميركي.
طلب سلاح، هذا ما يعرفه الاحتلال منذ تكونت عصاباته الغادرة على أرض فلسطين، حتى الآن وغداً، فدولة احتلال لا تعيش إلا بالمزيد من السلاح.
دعا نتنياهو الولايات المتحدة إلى تسريع وتيرة دعمها العسكري لإسرائيل للمساعدة في وضع حد للحرب في غزة، بعدما كان قد اتّهم واشنطن بتعليق مساعدات. أي وهم هذا الذي كشفته الحرب الجبانة على غزة؟ فهل كانت دولة الاحتلال بدون سلاح؟ هل نقصها السلاح فعلاً؟ الجواب أن حامل السلاح ليس بالضرورة فارساً، فقط كانت الحرب على المدنيين وأرضهم.
ادّعى نتنياهو “أن تسريع المساعدات العسكرية الأميركية يمكن أن يسرّع بشكل كبير إنهاء الحرب في غزة، وأن يساعد في منع اندلاع حرب أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط”. إنه ادّعاء غريب كذّبته أسلحة المقاومين البسيطة.
غزة بدون سلاح، أية مفارقة هذه التي نعيشها؟!
يريد الاحتلال المزيد من السلاح في الوقت الذي يسعى لوجود غزة بدون سلاح، فلمن إذن تعبئ دولة الاحتلال مخازنها؟
يدّعي نتنياهو أن “غزة منزوعة السلاح وخالية من المتطرفين يمكن أيضاً أن تفضي إلى مستقبل من الأمن والازدهار والسلام. تلك هي رؤيتي حيال غزة”.
تلك هي كذبته المفضوحة، وهو الذي ينحر غزة من الوريد الى الوريد.
تعب المصفقون من التصفيق، وبانَ تكلّفهم، بل بان تثاقلهم حين القيام للتصفيق، منتظرين بشغف انتهاء الخطاب، وهم تحت تأثير الخوف من اللوبي المؤيد لإسرائيل، في الوقت الذي تظاهر يهود الولايات المتحدة ضد جرائم الحرب.
يقول كل ما يقوله مطالباً بإشاعة ثقافة عدم كراهة اليهود، فعن أي يهود يتحدث نتنياهو؟ عن أي أزمنة وأمكنة؟ هل هناك من قرأ تاريخ اليهود في أوروبا والولايات المتحدة؟ وهل هناك من قرأ تاريخ اليهود في داخل المجتمع العربي والإسلامي؟
فشعب فلسطين العريق والإنساني شعب يعي الفرق بين الاحتلال والأديان مهما كانت.
وهكذا ارتاح أعضاء الكونغرس خصوصاً من غزا الشيب مفارقهم، وصفقوا للمرة الأخيرة، مودعين نتنياهو بعد بذل ما بوسعه لحماية الولايات المتحدة!
و.. نيرون مات ولم تمت روما
جاء في قصيدة محمود درويش “عن إنسان”:
يا دامي العينين والكفين ! إن الليل زائلْ
لا غرفةُ التوقيف باقيةٌ ولا زَرَدُ السلاسلْ!
نيرون مات ولم تمت روما…
بعينيها تقاتلْ!
وحبوبُ سنبلةٍ تموت
ستملأُ الوادي سنابلْ..!”
لم تمت غزة كما لم تمت فلسطين، ولا نتنياهو بخالد، ولا بايدن ولا ترامب. ستعيش الشعوب يوماً بسلام واحترام، أما القتلة، فلن يذكرهم التاريخ إلا من باب تجنب الآثام والجرائم.
[email protected]