لا يمكن الفصل بين ما يجري في فلسطين المحتلة وبين الأحداث الدراماتيكية على الساحة الدولية، إن لجهة الإيقاع المتسارع لطبول الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وانعكاساتها في الميدان الحربي أقله على الجبهتين: الأولى الجبهة الروسية- الأوكرانية التي شهدت جموداً لافتاً قرابة العام الواحد، ما لبثت أن احتدمت فجأة من جديد، والثانية الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة المشدودة إلى ناقوس خطر الحرب الأقليمية، والتي ما زالت في “ستاتيكو” متصاعد يكاد أن يلامس العام أيضاً. وإن لجهة الصعود السريع لليمين المتطرف في أوروبا وانعكاساته الجيوسياسية على جدوى الاستمرار في إنعاش الاتحاد الأوروبي بالتنفس الاصطناعي، ومواقفه العلنية التي تُعتبر أكثر تشدداً تُجاه القضايا العربية عامة والفلسطينية خاصة، إضافة لتصريحاته المثيرة للقلق اتجاه الجاليات الإسلامية في أوروبا.
لكن يبقى أكثرها دراماتيكية الآن هو ما جرى على الجبهة الروسية- الأوكرانية، فرغم أن الهجوم الأوكراني قد باغت الروس في الزمان والمكان، فإنّ مشهد توغلهم في الأراضي الروسية، وسيطرتهم على مساحة تُقارب ال800 كلم مربع من مقاطعة كورسك، بدا غير مفاجئ على الإطلاق إن في التوقيت السياسي الأمريكي أو في طريقة صنع القرار الأوروبي. فالأول حصل ضمن المهلة الزمنية الحرجة لكل من “بايدن” ونائبته “هارسون”، في ضوء حاجتهما لاصطياد أي نجاح ميداني في أوكرانيا، يمكّنهما من توظيفه في معركتهما الانتخابية ضد “ترامب”، والثاني في المسعى الأوروبي لاستثمار أي نجاح أوكراني كعامل ضاغط على موسكو لإجبارها على التفاوض لتنفيذ انسحاب متبادل بين الطرفين المتنازعين، تمهيداً لصلح دائم بينهما، ما يُمكّن أوروبا من كبح صعود اليمين المتطرف، والنهوض بالبلاد من جديد بعد التدهور الاقتصادي الأخير عقب سلسلة من السياسات الداخلية والخارجية غير الملائمة…
وبغض النظر إن فَشِل هجوم كييف في تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية لحلف الناتو، وتحديداً في محاولتها الاستيلاء على محطة كورسك النووية، أم نجح في ذلك…فإنه قد أعطى مؤشران سلبيان يرتبطان بالصراع في منطقة الشرق الأوسط. أولهما، كيف يتفق أن تُصدر “واشنطن” أوامرها ل”زيلنسكي” بالهجوم على الأراضي الروسية، وفي الوقت ذاته تترأس مفاوضات وقف إطلاق نار في غزة؟ والجواب، عدا عن مصالحها الانتخابية في ذلك، فإنّ “واشنطن” ترى في وقف إطلاق النار مصلحة آنية لهذا الكيان، ففي منظورها أنّ الآوان لم يحن والظروف لم تنضج لخوض حرب إقليمية…وثانيهما هو الهدف العسكري الاستراتيجي لكييف الذي أعلنت عنه في: “إقامة منطقة عازلة عند الحدود لحماية الشعب الأوكراني وجيشها من القصف الروسي وإضعاف هجوم الكرملين”. وهذه المرة الأولى منذ بدء الحرب الروسية – الأوكرانية التي تتحدث فيها أوكرانيا عن منطقة عازلة، على غرار ما يطرحه العدو الصهيوني باستمرار حول منطقة عازلة جنوب نهر الليطاني (850 كلم مربع) في تقارب يثير الريبة لمساحة مقاطعة كورسك، فهل هي محض صدفة؟ خاصة وأن الهجوم الأوكراني الأخير توارد مع عدة أحداث في منطقة الشرق الأوسط لها دلالات جعلتها تقف على حافة الحرب الإقليمية أو تؤسّس لها، إن في المدى القريب أو البعيد وسواء نجحت المفاوضات في قطر ومصر أو فشلت، وذلك للأسباب التالية:
ad
قيام الجيشين الأمريكي والصهيوني بأضخم مناورة عسكرية في المنطقة خلال شهر يناير/ كانون ثاني من العام 2023، وذلك قبل طوفان الأقصى تضمنت سيناريو هجمات صاروخية لإيران وحزب الله ضد الكيان، وهذا ما حصل خلال الرد الإيراني على الاحتلال في شهر أبريل الماضي. أضف إلى ذلك الحشد العسكري الأمريكي غير المسبوق الموجود حالياً في المنطقة، مقارنة بالعام 1991 (عاصفة الصحراء) أو بالعام 2003 (غزو العراق)، في ذات الوقت أرسلت مبعوثها الخاص “آموس هوكشتاين” إلى بيروت لمواصلة محاولاته في وقف التصعيد الحدودي، ما يؤكد أن “واشنطن” لا تريد اليوم حرباً فلا تريدها على توقيت الشرق الأوسط، لكنها قد تسعى اليها في الغد أو ما بعد الغد وفقاً لتوقيتها، توقيت “تايمز سكوير (Times Square) وذلك من خلال المحاولات المتكررة لإسقاط النظام الإسلامي في ايران، على ان تستتبعها بحروب صغيرة لتفتيت كل من حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق وانصار الله في اليمن، إلا أنّ هذا سيُقابل برّدات فعل من قبل محور المقاومة مجتمعاً، قد تجّر معها المنطقة إلى الحرب الكبرى.
تجديد “واشنطن” لترسانة السلاح الصهيونية البالغة 20 مليار دولار، والتي تتضمن عشرات الطائرات المقاتلة وصواريخ (جو- جو) المتطورة، ومركبات تكتيكية وأعداداً كبيرة من قذائف الدبابات والمدفعية من مختلف العيارات…وذلك قبل يومين من بدء المفاوضات في قطر (15 اغسطس) لوقف إطلاق النار في غزة. وعلى الرغم من أنه لا يُتوقع وصول الأسلحة إلى الكيان المحتل على الفور، إذ ستتراوح تواريخ التسليم من العام 2026 إلى 2029. فإنه سيواجه هذا التجديد في التسلح بتسلح مضاد، حيث سيسعى محور المقاومة إلى مضاعفة ترسانته، قد تشمل امتلاكه لأسلحة دمار شامل ضمن خطتيّ الردع والمواجهة، كما قد يصل صدى هذه الترسانة الجديدة إلى حدود إعلان ايران عن امتلاكها للسلاح النووي في إطار مواجهة ما تُخطط له كل من “واشنطن” و”تل أبيب”، مما يُعزز في المستقبل من احتمالات وقوع حرب نووية قد لا يُريدها محور المقاومة لكن قد تُفرض عليه في المدى المنظور.
الخلاف الأيديولوجي العميق بين محور المقاومة من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى مدعوماً بدول غربية وبعض الأنظمة العربية، مما يُبقي على حالات التوتر واللاستقرار بين الطرفين، فلا الكيان الصهيوني سيعترف بالحق الفلسطيني في دولة ذات سيادة أو حتى في حق العودة للفلسطينيين المبعدين منذ العام 1948، ولا محور المقاومة يقبل أن يكون رهينة لطلبات العدو، في أن يقف على الحياد مثلاً أو أن يعقد سلماً مُفخخاً قائماً على الاستمرار في المظلومية للشعب الفلسطيني. فنصرة المظلوم هي في أساس أدبيات الخطاب السياسي لمحور المقاومة…
حتى ولو وافق الكيان المحتل اليوم قبل الغد على العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر في غزة، فإنه قطعاً سيحتفظ بشريط عازل بين القطاع وغلاف غزة، وكذلك وإن رضخ في العودة إلى احياء القرار 1701 على الحدود الشمالية، فإنّ مشروع المنطقة العازلة جنوب نهر الليطاني سيبقى هدفاً له ومطلباً استراتيجياً داخلياً قد يدفعه للتهور من جديد، إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد بانتظار القرار الأمريكي ببدء التنفيذ، ما يُبقي المنطقة على شفا حرب كبرى مجهولة المصير.
وتعود لتبقى رسائل التهديد المتبادلة بين المقاومة الإسلامية والجيش الصهيوني هي محور الحرب والرادع الأول له، وليس آخرها في الغارتين (ليل 13 اغسطس) على بلدتي كفركلا وحنين، حيث استخدم العدو فيهما قنابل خارقة للتحصينات لأول مرة منذ بداية الحرب، وهي قنابل MK-84 مزودة بمجموعة GBU-31 JDAM تم إسقاطها من طائرة F-35 وذلك قبل بدء المفاوضات في قطر. لترد عليه المقاومة في اليوم الثاني للمفاوضات، بتهديد جديد ظاهره إعلامي، كشفت فيه عن منشأة تحت الأرض أسمتها “عماد 4″، وهي عبارة عن أنفاق ضخمة تمنح مرونة واسعة في الحركة وسهولة في المناورة لشاحنات إطلاق الصواريخ بمختلف أنواعها. فماذا عن منشآت عماد 1 و2 و3…و10…؟ ناهيك عن ذوالفقار… وما أدراك ما ذو الفقار 1و2 و3…؟…فهل يعقِل العدو فيرتدع عن محاولاته الحثيثة لتوسعة الحرب؟ وإن توقف اليوم، فإلى متى سيطول به الأمر؟ وهل سيأتي اليوم الذي تمنح فيه “واشنطن” الضوء الأخضر “لحكومة العدو” في جنوب الليطاني، على غرار إطلاقها لمغامرة “زيلنسكي” في كورسك؟…إلى أن يأتي هذا اليوم ستبقى المنطقة فوق فوهة بركان الحرب الكبرى، بانتظار ساعة الصفر….
عميد لبناني متقاعد