جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
المفارقة (Paradox – بارادوكس) كلمة يونانية تعني مخالفة أو مجاوزة الاعتقاد العام أو المنطق السليم لوقوع الأحداث، ولهذا فهي تبدو عند حدوثها متناقضة وعبثية المعنى والدلالة، لكنها تظل رغم ذلك مثيرة للدهشة والتأمل، وملهمة لأفكار كثيرة في الفلسفة بقدرتها المذهلة على تحدي العقل الإنساني ودعوته لإعمال الفكر بحثًا عن معانٍ غائبة ودلالات مقبولة وحكمة مفقودة.
من صور المفارقة في حياة البشر أن تأتي الأحلام في غير زمانها ومكانها بعد أن يكون الإنسان قد سئم انتظارها، وفقد فرحة تحققها، وربما فقد أيضًا القدرة على الاستمتاع بها. وأن يقترب منك الإنسان أو الرفيق الجدير بالبعد، ويبتعد عنك من هو جدير بالقرب. وأن تلتقي الشخص المناسب في الزمان والمكان غير المناسبين، فلا تجني من رؤيته ولقائه إلا حسرة ووجع وحتمية البعاد.
وتكرار وقوع المفارقات في حياة البشر يحول بعضهم إلى فلاسفة وساخرين عظماء؛ لأن الإنسان القوي يعيش المفارقة الأولى والثانية في حياته كمأساة مثيرة للحيرة والحزن، أما ما يأتي بعد ذلك من مفارقات فهو يعيشها ملهاة مثيرة للسخرية؛ ويتحول من رؤية التراجيديين اليونانيين العظام مثل إيسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس إلى رؤية وسخرية أرستوفان الكاتب المسرحي اليوناني الكبير.
وأظن أن هذا التحول ضرورة وجودية، لكي يستطيع الإنسان مواصلة رحلة حياته، وتقبل الواقع والتوقف عن التفكير والبحث عن منطق معقول لتفسير الأحداث ومفارقات الحياة والعلاقات الإنسانية.
وهناك نماذج مفارقات عديدة صادفتني في حياتي وقراءتي، ولا تزال تُثير بداخلي الكثير من الدهشة والتساؤل، من أمثلتها – بالإضافة إلى ما ذكرته في مقدمة المقال –حادثة وفاة شاعر القصة القصيرة والروائي الجنوبي الراحل يحيى الطاهر عبدالله؛ ففي أوائل عام 1981 أجرى حوارًا صحفيًا مع الأستاذ سمير غريب، نُشر بمجلة المستقبل، وقال فيه: “أنا لي عمر حريص عليه، أنا وصلت للسن الحرجة، أنا شاب، أديب شاب”.
لكن تشاء الأقدار أن يرحل فجأة عن دنيانا بعد ثلاثة شهور من إجراء هذا الحوار إثر حادث أليم على طريق القاهرة الواحات وهو في الثالثة والأربعين من عمره؛ وتلك من مفارقات القدر في حياة يحيى الطاهر عبدالله؛ ففي اللحظة التي بدأ يشعر فيها بقيمة الحياة وبمرور العمر، وحتمية التركيز على موهبته، وإكمال مشروعه الأدبي، مات!
ومن المفارقات العجيبة في حياة بعض الأدباء الكبار أن أغلبهم عاش حياة مأساوية وفي قمة الإحباط واليأس وقسوة العيش، لكن بلغ قمة المجد الأدبي بعد موته؛ مثل الأديب الإسباني سرفانتس الذي كتب روايته “دون كيشوت” ليسخر من أوهامه البطولية ويُسفه أحلامه في حياة الفرسان، لتصبح الرواية بعد موته من أهم كلاسيكيات الأدب العالمي وتُخلد اسمه لنهاية الزمان.
وكذلك الأديب الفرنسي “مارسيل بروست” الذي كان إنسانًا فاشلًا بامتياز، لم يستقر في وظيفة حقيقية طوال عمره، وظل يكتب روايته “البحث عن الزمن الضائع” لعشرين سنة، فلم يطلع عليها أحد في حياته، لتصبح بعد موته من أهم الأعمال الأدبية، وملهمة للكثير من الأدباء من بعده، ويصبح معها أعظم كاتب في الغرب بعد شكسبير.
أما المفارقة الأخيرة فهي مفارقة وجودية مثيرة للتأمل والحيرة، وتتمثل في أن أكثر البشر فاعلية وتحققًا في الوجود، واستمتاعًا بالحياة هما شخصان، الأول المؤمن المفكر الواعي، الذي يعتقد بوجود الله، وأنه هو الفاعل على الحقيقة، والرازق على الحقيقة، وأن ذات الله وقدراته ومقاديره لا متناهية، وأنه مسكون بقبس من روح الله تجعله إنسانًا ربانيًا لا تحد إرادته حدود، ولا يستوعبه ملكوت. أما الشخص الثاني فهو الملحد الذي لا يعترف بوجود الله، ويرى أن كل شيء مباح، كما اعتقد “إيفان” بطل رواية “الإخوة كارامازوف” لدوستويفسكي، ومن ثم يُطلق لإرادته العنان في الاستمتاع بحياته الأرضية، والاستثمار في وجوده العابر، ليصبح متجاوزًا في ذاته وقدراته وخياله وأحلامه لكل الحدود.