لم تكن إسرائيل بحاجة إلى عملية «طوفان الأقصى» حتى تقدم على ارتكاب حرب الإبادة الجماعية التي تقوم بتنفيذها منذ أحد عشر شهراً متواصلاً حتى الآن، وصحيح أنها اتخذت من تلك العملية ذريعة، لكن مواصلة إسرائيل لتلك الحرب وبنفس الوتيرة، وإصرارها على رفض وقفها، حتى مع التضحية بمحتجزيها، يعني أن حرب الإبادة قد تجاوزت منذ زمن بعيد حدود الانتقام لعملية «طوفان الأقصى»، كما أنها تجاوزت أن تكون قد انطلقت في لحظة غضب لما حدث، وهي رغم ما يقال، من أن بواعث استمرارها، إنما هي سياسية/شخصية تخص بنيامين نتنياهو، إلا أن حقيقة الأمر، على ما يبدو تتجاوز ذلك أيضاً.
فإسرائيل دولة مؤسسات، أهمها الجيش والمؤسسات الأمنية، التي أقامت الدولة قبل نحو ثمانين عاماً، وإسرائيل رغم أنها أقيمت في الشرق الأوسط، إلا أنها حتى اللحظة لا تعتبر دولة محكومة بنظام حكم الفرد، كما هو حال كل الدول العربية، أي لا يمكن أن تستمر إسرائيل في السير على طريق حرب الإبادة، رغم كل ما تجنيه من خسائر خاصة على مكانتها في العالم، فقط لمجرد أن تحقق المصلحة الشخصية السياسية لنتنياهو، ومن الخطأ أن نستمر بالقول إن استمرار الحرب يعود فقط لهذا العامل، فإسرائيل منذ أن جرى إسقاط حكومة اليسار باغتيال إسحق رابين العام 1995، وهي تتحول نحو اليمين مجتمعياً، وهي اليوم دولة يمينية تماماً، وفي الأطراف منها، أي في الأرض الفلسطينية المحتلة، أي القدس والضفة هي دولة احتلال متطرفة جداً.
ويختلط التوجه اليميني لإسرائيل مع التشدد الديني، بحيث تنتج عن ذلك خلطة عنصرية فاشية، تتجلى صورتها في الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، حيث المستوطنون، والجيش ووزراء اليمين المتطرف، ومن تابع فصول الحرب، يجد أن الغالبية الصريحة في إسرائيل كانت مع الحرب، حتى من عارض تكتيكات نتنياهو، أو من رأى أنه يولي الأهمية الأولى لبقاء تحالفه الحاكم، لم يعارض حرب الإبادة، وحتى بيني غانتس حين كان في حكومة الطوارئ التي تشكلت بينه وبين الائتلاف اليميني الحاكم، لم يحتج على ارتكاب جرائم الحرب، كذلك الحال بالنسبة لكل من يوآف غالانت، مجرم الحرب، وشريك نتنياهو المتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب حرب الإبادة، وكذلك هرتسي هاليفي رئيس الأركان، أي قائد المؤسسة العسكرية غير الخاضع للاعتبار السياسي، ويكفي التذكير هنا بأن غالانت ومنذ اليوم الأول، أعلن قطع الدواء والغذاء والاتصالات عن كل قطاع غزة، وهو من كان يرغي ويزبد ويعد لبنان بإعادته إلى العصور الوسطى على طريقة غزة.
وإسرائيل التي أفصحت، بأغلبية مطلقة فيها، عن رفض إقامة الدولة الفلسطينية، وقطعت كل الخطوط التي كانت على صلة بأوسلو، بعد أن ظلت طوال عشرين سنة ما بين عامَي 1994 – 2014 تراوغ في مفاوضات لم تسمح لها بالتوصل إلى الحل السياسي، أفصحت عن فحواها الفاشية اللاغية للطرف الفلسطيني الآخر، والتي ترى أنها فوق كل دول وشعوب الشرق الأوسط، بعد أن تحولت تماماً إلى اليمين، بل وانتقلت من اليمين إلى اليمين المتطرف، وصارت حكومتها تضم فاشيين وعنصريين بشكل واضح وصريح، فمنهم من يهدد بالقنبلة النووية، ومنهم من يهدد بالتهجير، ومنهم من ينوي إقامة الكنس في باحات المساجد، وهم يتسابقون على الإعلان عن تطرفهم، بمن فيهم وزراء الليكود، ولا يقتصر الأمر على نتنياهو، هذا على فرض أنه محكوم باعتبارات سياسية/شخصية، تجعله خاضعاً لبن غفير وسموتريتش، بل تشمل إضافة إلى ميري ريغيف ويوآف غالانت أيضاً إسرائيل كاتس وزير الخارجية، وبالطبع هناك في المعارضة من أهم أكثر تطرفاً من وزراء الليكود، نقصد كلاً من جدعون ساعر، ونفتالي بينيت الذي تمنحه آخر استطلاعات رأي القدرة على تصدر المشهد الإسرائيلي، كذلك أفيغدور ليبرمان.
باختصار، هناك مشكلة باتت بنيوية في طبيعة المجتمع الإسرائيلي وفي تركيبته وتشكيلته، وإسرائيل مع هذه الحكومة، تعتبر أنها وصلت إلى اللحظة المناسبة التي لا تكون فيها قادرة على الإفصاح عن رغباتها وأهدافها الاستعمارية التي لم تعد تكتفي حتى بالاحتفاظ وبضم كل الأرض الفلسطينية المحتلة في القدس وقطاع غزة والضفة الفلسطينية وحسب، بل وتتطلع بهذا الشكل وبذاك القدر إلى التمدد والتوسع بالنفوذ والجغرافيا، لتكون الدولة التي تتحكم بالنظام الإقليمي الشرق أوسطي على طريقة تحكم أميركا بالنظام العالمي.
لهذا فإن إسرائيل خلال ولاية دونالد ترامب، بدأت تحسم ملفات عالقة منذ زمن، في مقدمتها ملف صراعها مع الشعب الفلسطيني، ولم تضيّع وقتاً، فمنذ أن دخل ترامب البيت الأبيض العام 2016، سارعت إلى دفعه للانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ومن ثم إلى تجاوز تقليد الرؤساء الأميركيين السابقين، والشروع بتنفيذ قرار كونغرس قديم يوصي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ثم تلا ذلك اعترافه بالقرار الاحتلالي الإسرائيلي الخاص بضم الجولان السوري المحتل، ثم انتهت ولايته الأولى باحتفاله مع صديقه وشريكه نتنياهو بعقد اتفاقيات أبراهام، ولا ننسى أن ذلك تم بعد التهديد بضم أجزاء واسعة من الضفة الفلسطينية، وقد بررت الإمارات والبحرين إقدامهما على ذلك الاتفاق بحجة منع الضم الإسرائيلي للضفة الفلسطينية!
وكان نتنياهو يتطلع إلى استكمال هذا المسار، على اعتبار أن التقليد الأميركي الجاري منذ سنوات يشير إلى أن الرئيس عادة ما ينجح في البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية، لكنه فوجئ بهزيمة ترامب، ورغم أنه لم ير ما حدث بمثابة الكارثة، ذلك أن من حل مكان ترامب كان صورة قريبة منه، خاصة في العلاقة مع إسرائيل، نقصد جو بايدن، لكن المفاجأة غير السارة كانت بالنسبة لنتنياهو هي هزيمته في انتخابات الكنيست الرابع والعشرين، وتشكيل حكومة برئاسة نفتالي بينيت، وهو التلميذ الذي خرج من معطف نتنياهو أصلاً، وكان مهماً أن نلاحظ أن كل ائتلاف المعارضة، الذي نجح منتصف العام 2021 في الإطاحة بنتنياهو، قد تشكل برابط الاختلاف الشخصي مع نتنياهو، والدليل أنه نصّب يمينياً متشدداً أكثر من نتنياهو كرئيس للحكومة.
ليس ذلك وحسب، بل إنه في عهد الحكومة البديلة، وفي ظل غانتس وزيراً للجيش أطلقت عملية «كاسر الأمواج» في الضفة، منذ آذار 2022 وحتى اليوم، ورغم أن الضفة الغربية محكومة منذ العام 2005 بسلطة تكنوقراط وبرئيس لم يعرف يوماً طريقاً للتشدد السياسي، بل هو الوحيد الباقي والمتمسك بالحل السياسي وبأوسلو، وحتى بالمقاومة الشعبية السلمية، إلا أن الضفة تتعرض، بعد طيّ ملف التفاوض، إلى عملية متواصلة من الضم الميداني، بزرع الاستيطان وتقطيع أوصال المجتمع الفلسطيني، ثم بمواصلة حرب «الباب الدوار» أو المفتوح، حيث تتوالى كل يوم الاجتياحات وقتل المواطنين.
ولأن إسرائيل تعتقد أن لحظة الحسم قد دنت، فقد واصلت حرب الإبادة في غزة، لإعادة احتلالها ولجعلها نموذجاً يطبق تالياً في الضفة الغربية، وبعد فشل المجتمع الدولي في ردع إسرائيل ووقف حرب إبادتها لغزة، اضطرت جبهات الإسناد إلى رفع مستوى الإسناد، ومع مرور الوقت تصاعد دور الضفة المزدوج في إسناد غزة وفي الكفاح ضد الاحتلال، ولهذا فإن إسرائيل وقد وجدت أبواب لبنان مغلقة أمام نقل الحرب إليها، تقوم هذه الأيام بنقل حرب الإبادة للضفة، ويكفي هنا أن نشير إلى أن إسرائيل باتت تمارس بالتدريج في الضفة ما تمارسه في غزة من دمار، حيث تشير التقارير إلى أنها دمرت أكثر من 70% من شوارع جنين، وأنها قتلت خلال بضعة أيام نحو عشرين مواطناً بحربها ضد مخيمات ومدن جنين وطولكرم ونابلس، أي شمال الضفة ثم الخليل وقراها، لكن المقاومة بدورها اشتد عودها هناك، وبدأت خلال الأسابيع الأخيرة تتجاوز مرحلة تلقي الضربات، وتلقي القتل الذي يقع في جانب واحد فقط.
كل هذا جاء مترافقاً مع تصريحات كاتس التي تشي بتوسيع إسرائيل نطاق حرب الإبادة لتشمل الضفة، وذلك بإجبار السكان على النزوح، وهذا ما بدأت تمارسه ميدانياً في حي عبد الله عزام بجنين، فيما تقارير «أطباء بلا حدود» تشير إلى استهداف مركبات الإسعاف، واقتحام مستشفى ابن سينا، وإطلاق النار على خزانات المياه، فيما المقاومة بدأت في التصدي للاجتياحات بوسائل مختلفة.