حين يتحدّث ترامب عن مصير إسرائيل..

لم يكن المرشّح “الجمهوري” والرئيس السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب مازحاً، ولا متعباً، ولا مخموراً حين قال وكرّر خلال مناظرته التلفزيونية مع المرشّحة “الديمقراطية” كامالا هاريس، “إنه إذا تمّ انتخاب منافسته التي تكره إسرائيل، فإنّ الأخيرة ستختفي خلال عام أو اثنين”.

كان ترامب قد أعدّ نفسه جيداً قبل المناظرة، التي انتهت لصالح هاريس، وقد شحذ كلّ أسلحته بهدف الفوز على منافسته القوية.
يعلم ترامب أنّ موضوع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والحرب الوحشية الدائرة، ستكون أحد العناوين الرئيسة التي سيُسأل عنها في المناظرة، وكان من المنطقي أن يكون قد فكّر في إجابته عن السؤال المتعلّق بهذا الملفّ ما يُضفي جدّية على ما تفوّه به، بما يتجاوز تحريض اللوبي اليهودي، للامتناع عن دعم هاريس.
التصريح بشأن احتمال اختفاء دولة إسرائيل، بالنسبة لمرشّح رئاسي لديه تجربة امتدّت لأربع سنوات سابقة بين 2016 و2020 ينطوي على أبعاد خطيرة ودلالات بعيدة المدى.
يرى ترامب أنّ الولايات المتحدة في عهد جو بايدن، وخليفتها المرتقبة هاريس، قد نال منها التعب، وتراجعت قوتها وهيبتها ودورها في العالم، وعلى الصعيد الداخلي.
ويرى، أيضاً، أنّها عملت على سياسات فاشلة، من أفغانستان والانسحاب المذلّ، إلى الشرق الأوسط وإلى حرب روسيا على أوكرانيا، تكبّدت خلالها الولايات المتحدة مئات مليارات الدولارات وحدها، دون تدفيع شركائها الأوروبيين الثمن، بالإضافة إلى سياسة الإدارة الفاشلة إزاء كيفية التعاطي مع الملفّ النووي الإيراني.
ضمنياً يعترف ترامب، بأنّ الإدارة الأميركية التي لم تقصّر أبداً في تقديم كل أشكال الدعم لإسرائيل، هي شريكة في الفشل، الذي يميّز أداء الشريكين في الحرب العدوانية الدائرة على غزة و”محور المقاومة. لكن ما قاله، أيضاً، يشير إلى حقيقة أنّ إسرائيل لا تستطيع البقاء دون الدعم اللامحدود من الولايات المتحدة.
ما قاله ترامب، يرشّ الملح على جراح إسرائيليين كُثر، وكبار من سياسيين، ومؤرّخين، وأمنيّين، وجنرالات، وكُتّاب تهيمن على أفكارهم، قصة العقد الثامن.. كثير من هؤلاء تحدّثوا قبل الحرب وخلالها، بأنّ نتنياهو يدفع إسرائيل نحو هاوية، مجهولة، وكان إيهود باراك رئيس الحكومة الأسبق، قد قال قبل بضعة أشهر، إنّ نتنياهو يقود “التايتانيك” الإسرائيلية إلى الغرق.
في المحصّلة، فقد فرضت القضية الفلسطينية نفسها على أجندة السياسة الأميركية، وتحوّلت إلى قضية فاعلة بعد أن كانت مجهولة تماماً قبل سنوات، من قبل الناخب الأميركي.
التصريح وقع كالصّاعقة على المجتمع السياسي والأمني الإسرائيلي، ولكن هؤلاء كظموا غيظهم، إلّا من تصريح محدود لنتنياهو، الذي يبدو أنّه وقع في الفخّ، ولكنه يواصل دعم حملة ترامب.
يتمثّل الفخّ، في أنّ تصريحات ترامب، لم تحدث أثراً لدى الناخب الأميركي، بالاتجاه الذي يدفعه للتفكير وإعادة النظر فيما دأب الصوت اليهودي على فعله.
استطلاعات الرأي التي أعقبت المناظرة أشارت إلى أن 73% من يهود الولايات المتحدة سيصوّتون لصالح المرشّحة “الديمقراطية”.
المعروف تاريخياً أن 70% من أصوات اليهود تذهب للمرشح “الديمقراطي” لأسباب تتعلق برؤية الحزب للحريات الداخلية، دون أن ينتابهم شك بأنّ الإدارات “الديمقراطية” التزمت دائماً بدعم إسرائيل، وتفوّقها وحمايتها.
وفي الحقيقة فإنّ تجربة الحرب العدوانية الإسرائيلية الأميركية الفاشلة والتي لم تحقق أياً من أهدافها، سوى كل ما هو سيئ للشريكين قد أثبتت أنّ إدارة بايدن، الذي أعلن عن صهيونيته، كانت من أكثر الإدارات الأميركية دعماً للدولة العبرية.
النتائج التي أفضى إليها استطلاع الرأي بعد المناظرة الرئاسية تشير بطريقة أو أخرى، إلى أنّ اليهود الأميركيين، يعترضون على السياسة التي تديرها الحكومة المتطرفة بقيادة نتنياهو.
أكثر من ذلك فإنّ أعداداً كبيرة من اليهود الشباب، والطلّاب ينحازون لصالح الفلسطينيين، ويشاركونهم احتجاجاتهم ولا يتخوفون من إعلان ذلك أمام وسائل الإعلام، بل إنهم يبدؤون الحديث عن أنّهم يهود أميركيون.
على أنّ القضية الأبرز في هذا السياق، هي أن بقاء أو غياب دولة إسرائيل، مرهون بالدعم الأميركي، وقد أظهرت وقائع الحرب الإبادية، ها الأمر على نحو جليّ.
الإسرائيليون يعترفون بهذه الحقيقة، بمن في ذلك وبطرق غير مباشرة، نتنياهو وقيادة حربه الفاشية الفاشلة حين يتسوّل الدعم العسكري الأميركي، سواء بالذخائر والأسلحة، أو من خلال تواجدها العسكري في المنطقة.
ثمّة اعترافات إسرائيلية، بأنّ تصدّي القوات الأميركية للصواريخ الإيرانية في شهر نيسان، كان له الدور الأساسي، في عدم وصول معظمها والمسيّرات إلى أهدافها.
يُلفت النظر في هذا السياق، أنّ بيني غانتس أطلق تصريحاً غريباً بعد المناظرة قال فيه، “إن إسرائيل ليست في حاجة إلى حكم شعب آخر وشدّد على الحاجة لترتيبات سياسية باعتبارها حاجة واضحة”.
غانتس أعرب عن رأي اعتبره البعض مؤيداً لإقامة دولة فلسطينية وضدّ السيطرة الإسرائيلية على كامل مدن وبلدات الضفة الغربية، وقال: إن “السلام ليس كلمة قذرة”.
قد لا يكون تصريح غانتس، متأثّراً بما صدر عن ترامب، لكنه بالتأكيد، يعكس قراءة للتحوّلات الجارية على مستوى الصراع وعلى المستوى الدولي، الذي يشهد إجماعاً دولياً على “حل الدولتين”.
التصريح خجول في ظلّ الإجماع الإسرائيلي الذي ظهر في الكنيست، بموافقة 90 صوتاً لصالح قرار رفض إقامة دولة فلسطينية.
غير أنّ هذا التصريح يعكس التحوّلات المرتقبة في المجتمع السياسي الإسرائيلي، وبداية لانضمام أحزاب أخرى، للمجاهرة بتأييد الحلّ السياسي، وإقامة دولة فلسطينية باعتبارها الضمانة الأفضل لأمن إسرائيل وبقائها ما سيخلق تناقضاً آخر، عميقاً فيها، ولكن دون انتظار نتائج قريبة لصالح أغلبية تؤيّد هذا التوجّه.