بعد أسابيع من اجتياح القوات الإسرائيلية مدينة رفح، التي كانت تعتبرها إسرائيل آخر معقل لحماس، ويقول بنيامين نتنياهو بأنه من دون اجتياحها لن يتحقق النصر الكامل، أطلق الرجل تهديداً لحزب الله في لبنان، متوعداً إياه بما أسماه بالحرب الكبرى، ليرد عليه نصر الله بالقول، بأنه هو مَن كان يقول بهذه الحرب وذلك منذ العام 2019، أي قبل أعوام من وحدة الساحات، وحين كانت المواجهة بين إسرائيل وحزب الله تشهد فصولاً ساخنة متقطعة، مثل عملية “درع الشمال” التي استمرت شهراً ونصف، ادعت في نهايتها إسرائيل بأنها اكتشفت أربعة أنفاق اتهمت حزب الله بحفرها.
وكان حزب الله منشغلاً حتى ذلك الوقت في مساعدة سورية لتجاوز ما واجهته من تحديات عسكرية داخلية، فيما كانت إسرائيل منشغلة بدورها بمتابعة تداعيات وفصول ما تبقى من “ربيع عربي” توّجته باتفاقية أبراهام مع كل من الإمارات والبحرين والمغرب، الى أن طويت صفحة ولاية الرئيس ترامب الذي انحاز كثيراً لإسرائيل، وقدم لها خدمات سياسية غير مسبوقة، بما وضع المنطقة على صفيح ساخن، سرعان ما اشتعل فيها فتيل الحرب الذي مازال ينذر باشتعال الشرق الأوسط كله، بحريق يسعى اليه الإسرائيليون لأكثر من سبب، أهمها أنهم يعتقدون بأن العالم يتغير، بالتحديد من عالم أحادي الأقطاب الى متعدد الأقطاب، لن تعود فيه أميركا بعد أعوام قليلة هي المتحكمة بالعالم منفردة، لذا فإنهم في سبيل فرض سيطرتهم على الشرق الأوسط يسعون لهدف مزدوج مكون من شقين، أحدهما هو طي الملف الفلسطيني بطرد الشعب الفلسطيني من وطنه وإعلان إسرائيل الكاملة على أرض فلسطين التاريخية/الانتدابية، والثاني تحطيم محور المقاومة الإقليمي، من خلال جر أميركا الى حرب مباشرة مع إيران، وفي السياق سحق منظومات محور المقاومة الإقليمي.
لكن كما أن أميركا، لم تعد هي القوة الوحيدة على الصعيد الكوني، التي تتحكم بالعالم، وتقرر مصيره وفق ما تشاء وتريد، كذلك بات حال إسرائيل، التي لم تعد هي القوة العسكرية الوحيدة، في الشرق الأوسط، رغم أنها ما زالت قوة عسكرية إقليمية كبرى، مدعومة من قبل الغرب وأميركا على نحو خاص، لكن في ظل عالم متغير، لم تعد القوة العسكرية، كما كان الحال في السابق، تحسب على أساس تقليدي، بين جيوش نظامية، محوره عدد الطائرات والصواريخ، الدبابات والمدافع والجنود والقطع البحرية، بل هناك كتائب مقاومة شعبية، تجر الجيوش الى حروب عصابات، وهذا أمر جرّب خلال حروب التحرير التي وقعت قبل نحو سبعين عاماً، انتهت بتحرير العديد من الدول التي كانت مستعمرة، وصحيح أن تلك الشعوب انتصرت ضد جيوش الاستعمار بفضل الدعم العسكري والسياسي الذي حصلت عليه من الاتحاد السوفياتي والصين في ذلك الوقت، ولهذا فإن دعم إيران خاصة لحركة المقاومة الفلسطينية واللبنانية وحيث هناك أرض محتلة في الجولان، يُعتبر أمراً حيوياً، خاصة خلال الأعوام القليلة التي مضت والأعوام القادمة.
لم تدخل بعد الصين وروسيا على خط المحور المقاوم عسكرياً بالتحديد، لكن في حال اندلاع حرب إقليمية شاملة، لا أحد يمكنه أن يجزم بعدم تدخلهما، والصين وكوريا وإيران، وغيرها من الدول لم تخفِ دعهما السياسي وحتى العسكري لروسيا في حربها ضد الناتو في أوكرانيا، المهم أن اللحظة التي اندفعت فيها “كتائب القسام” قبل أقل بأيام من عام، نحو مستوطنات الغلاف، كانت فارقة، فهي دلت أولاً على أن أحد أطراف محور المقاومة هو الذي أخذ زمام المبادرة، فيما فكرة وحدة الساحات سبقت ذلك بفترة عام أو أكثر، أي منذ إطلاق إسرائيل عملية “كاسر الأمواج” في الضفة الفلسطينية، لأن إسرائيل ظنت بأن قطاع غزة، صار خارج دائرة الصراع، وأن عليها أن تحسم مستقبل الضفة، في انتظار انتهاء ولاية جو بايدن، التي انشغلت معها بإغلاق الأبواب السياسية التي حاولت فتحها، سواء ما يخص العودة للاتفاق مع إيران، أو فتح القنصلية الأميركية في القدس، أو فتح الأفق السياسي مجددا بين إسرائيل وفلسطين، حتى لو كان ثمن ذلك التطبيع مع السعودية.
المهم أن “طوفان الأقصى” جاء ليقلب الطاولة في وجه إسرائيل وهي في أشد صورها تطرفاً، مع حكومة فاشية لم يسبق لها مثيل، ورغم أن إسرائيل تعرضت لصدمة سياسية، عبرت عنها بجنون فاشي، من خلال الرد الذي ما زال مستمراً، واحتوى مضمونه حرب الإبادة، حيث صار شعار تطهير قطاع غزة من سكانها، هدفاً مرادفاً للهدف الأساسي غير المعلن وهو تهجير سكان الضفة الفلسطينية، وظنت إسرائيل بأنه يمكنها أن تسحق غزة في أيام أو أسابيع أو حتى أشهر، وأخذت وقتاً امتد ثلاثة أسابيع في القصف الجوي، لكنها فوجئت بتدخل جبهات عدة، كانت على التوالي جنوب لبنان، ومن ثم اليمن فالعراق، ولاعتبارات داخلية “قبض” حزب الله على العصا من المنتصف، آخذاً بالاعتبار معادلة لبنان السياسية، وأهمية قطاع غزة لمحور المقاومة، فيما كان العامل الجغرافي بين اليمن والعراق من جهة وفلسطين من جهة أخرى يحول دون أن يدخل البلدان في حالة حرب مباشرة وكاملة مع إسرائيل.
ولم يخف على أحد طوال عام كامل من الحرب بأن العامل السياسي الداخلي في إسرائيل قد تحكم بأهداف الحرب واستمرارها، فنتنياهو وجد فيها ضالته للبقاء في سدة الحكم، بعد أن كادت تقع حرب أهلية سياسية داخل إسرائيل منذ تشكيل حكومته الحالية في نهاية 2022، أي قبل عام من طوفان الأقصى، على خلفية تعديلات القضاء، ولم تقتصر المفاجأة على تدخل جبهات الإسناد، على خط الحرب مع إسرائيل، التي تلقت دعماً عسكرياً وسياسياً غير مسبوق لم يقتصر في بداية الحرب على أميركا فقط، لكن المفاجأة كانت في اندلاع تظاهرات التنديد العالمي بحرب الإبادة الإسرائيلية، وكذلك في انعقاد محكمة العدل والجنائية الدولية في لاهاي، بطلب من جنوب إفريقيا، حيث سارعت عديد من الدول لاحقا لمشاركة جنوب إفريقيا في دعواها، التي وصلت الى حد تقدم المدعي العام بطلب إلقاء القبض على نتنياهو ويوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم الحرب.
وإسرائيل وطوال عام كامل لم تستطع أن تسحق غزة، رغم نجاح بايدن في تهدئة الصخب الدولي الرافض للحرب، إن كان في أروقة مجلس الأمن والجمعية العمومية، أو عبر التظاهرات، وذلك بفتح ملف مضلل حول صفقة تبادل المحتجزين بوقف الحرب، وهكذا لم تجد إسرائيل من يجبرها لا على عدم اجتياح رفح، ولا على وقف الحرب، والتوقف عن ارتكاب المذابح اليومية بحق الفلسطينيين التي ما زالت ترتكب لليوم، من خلال قتل العشرات وجرح المئات يومياً، حتى تجاوز العدد 50 ألف شهيد ومفقود، ومئة ألف جريح من بين مليوني إنسان مقابل أقل من ألفي قتيل إسرائيلي، في يوم الطوفان وبعده، لكن إسرائيل لم تستطع أن تحقق النصر ممثلاً بإطلاق المحتجزين أحياء، وسحق المقاومة وقتل أو إلقاء القبض على قيادتها.
وما زال يحيى السنوار حياً طليقاً، رغم عام من “حرث” كل أرض غزة، ورغم خلية الملاحقة الخاصة، وكذلك الضيف وحتى قيادات “الجهاد” العسكرية، مازالوا يقودون المقاومة التي ما زالت تنصب الكمائن لقوات العدو، وخلال عام لم تستطع إسرائيل إطلاق سراح إلا بضعة محتجزين لا يتجاوزون أصابع اليدين، فيما تأكد بأنها ستحصل عليهم أحياء فقط عبر صفقة التبادل، لكن إسرائيل التي تتفوق في الاغتيالات نجحت في اغتيال إسماعيل هنية بطهران وفؤاد شكر ببيروت، وفي تفخيخ شبكة اتصالات حزب الله، ولم تنجح في اصطياد الضيف أو السنوار، لذا فقد ولت أدبارها من غزة نحو الشمال، مع بدء العام الدراسي، بما يعيد للأذهان ما هدد به الطرفان من حرب كبرى بينهما، تتجاوز حالة الاشتباك التي استمرت عاماً مضى، ولا تصل لمستوى الحرب الشاملة الإقليمية.
والحقيقة أن حرباً لا تحسم بالضربة القاضية، يعني بأنها حرب ستطول وستمتد سنوات قادمة، وخلالها من الطبيعي أن يحقق كل طرف “إنجازات” تكتيكية عسكرية، وهذا الأمر قد بدأ بتحقيق إسرائيل الاختراق قبل أقل من شهرين باغتيال هنية وشكر، فيما رد حزب الله بضربة موجعة في جليلوت حيث مقر الوحدة 8200 التي تعتبر هي المسؤولة عن كل عمليات الاختراق الإلكتروني والتي تمثلت في هجوم الفيروس الذي عطل أجهزة الطرد المركزي النووي الإيراني عامي 2005_2010 والهجوم على شركة الاتصالات اللبنانية “أوجيرو” عام 2017، ثم أخيرا على “بيجر” حزب الله قبل يومين، ورغم أن هذه العملية معد لها منذ فترة قد تصل الى العام، إلا أنها جاءت بعد وصول الصاروخ الفرط صوتي اليمني لتل أبيب.