في خطاب نصر الله الهادىء مزج بين الواقعية الإقرار بحجم الضربة الكبير أمنياً وانسانياً التي تلقها الحزب، وربما هي الأكبر التي اصابة بيئة وبنية المقاومة على مدار حروب ومعارك الحزب والمقاومة، من حيث حجم الخسائر البشرية في يومين ، الغارات المكثفة في تموز/2006 وكذلك الغارات في السابع من اكتوبر/2023 على قطاع غزة ، 39 شهيداً 2931، ومئات الإعاقات والتشوهات في العينين والوجوه والأطراف العليا… وكذلك نصر الله اكد على ان هذه الضربة التي قال توصيفها يحتمل تسميتها بإعلان حرب او حرب ابادة او جريمة حرب، لم ولن تسقطنا، بل ستزيدنا قوة وتصميم….وهي ترسل رسائل طمأنة، بأن بنية المقاومة لم يصبها خلل او إرباك او تفكك، أو قطع وفقدان السيطرة في التحكم والقيادة ، وبقيت تعمل في اعلى درجات جهوزيتها واستعدادها …وشدد كذلك في خطابه على الثبات على الموقف، بان جبهة الإسناد التي انطلقت من الشمال في اليوم الثاني لمعركة 7 اكتوبر مستمرة، ولن تتوقف إلا بتوقف العدوان على قطاع غزة، واذا كانت اسرائيل قد اضافت الى اهداف العدوان، هدف اعادة مستوطني المستوطنات الشمالية، الى اماكن وجودهم ومزارعهم ومصالحهم الإقتصادية، فقد اضاف شرط وقف العدوان على الضفة الغربية…
في حين نبرة التحدي لنتنياهو وغالانت وهليفي واوري غرودين قائد المنطقة الشمالية، كانت واضحة في خطابة، عندما قال بأنه يتحداهم ، بأن يقوموا بإعادة سكان المستوطنات الشمالية الى مستوطناتهم، وان اي حماقة او تصعيد من قبل قادة اسرائيل، ستقود الى زيادة أعداد المستوطنين المهجرين وليس اعادتهم، ووصف قائد الجبهة الشمالية الإسرائيلية غوردين صاحب اقتراح اقامة شريط أمني في جنوب لبنان من أجل الضغط لإعادة المستوطنين، بالغبي ، وقال بأننا ننتظر قدوم الجيش الإسرائيلي وهذه فرصة تاريخية، وسنحول هذا الشريط الى مستنقع ووحل وكمين لهذا الجيش ..ومثل هذا الشريط لن يمنعنا عن مواصلة استهداف قواعد وثكنات الجيش الإسرائيلي ومستعمراته في الشمال وخارج حدود لبنان..وقال نحن نبحث عن جنود ودبابات ومدرعات الجيش الإسرائيلي في المنطقة الحدودية ب” السراج والفتيلة”…وفيما كانت العيون شاخصة ومتوقدة لسماع ما سيقوله على طبيعة الهجمة الشرسة السيبرانية الأمنية والتكنولوجية التي تعرضت لها بيئة المقاومة وبنيتها، معترفاً بالتفوق التكنولوجي لإسرائيل التي يدعمها ويسندها تكنولوجيا متقدمة امريكياً واوروبياً غربياً ..ولأن الحروب لا تدار على “الريموت” كونترول” أو أن الحرب مجرد لعبة ” اتاري” والردود لا تأتي على قدر ما يطلبه المستمعون او ما يريده اصحاب الرؤوس الحامية، من رد انفعالي ومتسرع وعاطفي ، قد يبرد الصدور ولا يشفيها، ولكنه قد يؤدي الى فشل أو نتائج متدنية ودون المستوى، وبالتالي يتحول الى عامل ضاغط على المقاومة ويسجل ربح وانجاز لنتنياهو وجيشه…ولذلك هو يدرك طبيعة البلد الذي يعيش فيه وحجم التعقيد والتشابك واتداخل الكبير والكثير في المصالح، وحجم التحريض الذي سيمارس على الحزب، اذا ما بادر الى توسيع الحرب بشكل كبير جداً، وخاصة بأن الجريمة الموصوفة حسب خبراء اممين ترتقي الى جرائم حرب وقتل عشوائي للمدنيين، ومصادرة حقهم في الحياة، فهذا الرد يجب ان يكون مدروس ومخطط له جيداً، لكي يأتي بحجم الجريمة المرتكبة ويوازيها، ولذلك لم يلزم نفسه بمكان وزمان الرد وطبيعته، بل قال بأن الرد سيكون عسيراً ومن حيث يحتسبون وما لا يحتسبون، وما ترونه ولا تسمعونه، وهو وضع في عهدة اضيق دائرة، وهذا يعني بأن الرد سيكون نوعي ويحمل طابع المفاجاة، فالحزب في معاركه وحروبه السابقة عود المقاومة وجمهورها وبيئتها على مثل هذه المفاجأت…ففي حرب تموز/2006 ، لم يكن هناك حتى من يعتقد بأن الحزب يمتلك صواريخ كورنيت وياخوت، والجميع شاهد مباشرة على الهواء قول نصرالله عن السفينة الحربية الإسرائيلية “ساعر ” انظروا اليها انها تحترق في عرض البحر …وكذلك شاهد الجميع صواريخ الحزب وهي تصل الى حيفا وما بعد حيفا …ما قامت به اسرائيل من هجمة سيبرانية امنية تكنولوجية واسعة وكبيرة وعلى نطاق جغرافي واسع لم يطال الضاحية الجنوبية والبقاع، بل العاصمة بيروت وبعض مناطق الشمال وسوريا، يقول بأن اسرائيل أحرقت واحدة من اوراق مفاجاتها، لم تتضح اسباب القيام بها، في هذه المرحلة …ولكن الحرب هي سجال يوم لك ويوم عليك وتحمل الكثير من المفاجأت.
ثمة سؤال كبير يطرح، إذا كانت اسرائيل قد اخترقت منذ فترة سلسلة التوريدات لأجهزة “البيجر” والوكي توكي …ما بين تايون والمجر، وربما احتاج الأمر لسنوات من الإعداد والتخطيط وصولاً الى التنفيذ والإنجاز، فلماذا قامت اسرائيل بحرق مفأجأتها هذه الإستراتيجية في هذه المرحلة..؟؟؟، وربما من وجهة نظري بأن اسرائيل كانت تعد لهذه العملية، بعد أن تنجح بشن حرب شاملة، تقنع فيها امريكا ودول الغرب الإستعماري، على ايران وكافة حركات المحور من قوى المقاومة في العراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين ، حيث هناك احتمالية كبيرة ، بأن تكون عملية الخرق السيبراني الأمني والتكنولوجي قد طالت اجهزة “البيجر ” وال “وكي توكي” في أكثر من دولة ايران والحشد الشعبي والكتائب حزب الله العراقي وانصار الله، وبالتالي مع اشتعال الحرب الشاملة، تقوم بعملية التفجير للأجهزة المفخخة بشكل متزامن وعلى كل الجبهات، لضرب البنى العسكرية لتلك القوى وبيئاتها الحاضنة، بما يدخلها في حالة الإرباك والتخبط والفوضى الشاملة، وبما يفقدها القدرة على احتواء تلك العملية واستيعابها، وكذلك فقدان القيادة والسيطرة والإتصال …ربما هذا سيناريو يجب أن يأخذ بعين الإعتبار ، ولكن بالعودة للجبهة اللبنانية، أنا اعتقد بأن اسرائيل التي فتحت خزائن حرب لم تقع، قد قررت التضحية بهذه المفاجأة المخبأة لمرحلة لاحقة، بشكل مفرق ، لقناعتها بأن قدرتها على دفع المنطقة الى الحرب الشاملة، رغم كل الضغوط التي مارستها على أمريكا لدفعها للمشاركة في هذه الحرب لم تنجح، أو ان عملية التفخيخ للأجهزة، باتت قريبة من الإنكشاف، وبالتالي أقدمت على تفجيرها .
من وجهة نظري بأن حرب شاملة على الجبهة الشمالية، بدخول بري الى لبنان، هي فوق طاقة اسرائيل ، وجيشها يحتاج الى 100 الف عنصر بشري ، والف دبابة ومدرعة على الأقل ، وصورة جيش الإحتلال تقول، بان هناك نقص في العنصر البشري ، دفع بحكومة الإحتلال لتجنيد اللاجئين الأفارقة 20 – 30 الف مقابل منحهم الإقامة القانونية، وكذلك الفشل في تجنيد اليهود ” الحريديم” لتعويض النقص، وحالة الجيش من اهتراء واهتلاك وانخفاض الدافعية وتراجع الروح المعنوية، والخلافات التي تعصف بالمؤسسة العسكرية والإستقالات الواسعة فيها ، تجعل القيام بمثل هذه العملية العسكرية صعبة جداً، ناهيك بأن المخاطر المترتبة عليها كبيرة جداً، فإمكانيات حزب العسكرية والتسلحية ، وخاصة من الصواريخ الدقيقة والمسيرات الإنقضاضية، ستضع الإمكانية الوجودية لإسرائيل على المحك.
ولذلك هم على قناعة تامة بأن وقف الحرب على الجبهة الشاملة، غير ممكن دون وقف العدوان الشامل على قطاع غزة، وعبر حل سياسي ، ولذلك غالانت قال بشكل واضح ، في الحرب على حزب الله هناك فرص كثيرة ، ولكن هناك مخاطر كبيرة، وهو من قال بعد عملية الأربعين، التي رد فيها حزب الله على اغتيال القائد فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، بأن الحرب مع حزب الله مؤجلة للمستقبل البعيد، ولكننا سنستمر في ملاحقة عناصر حزب الله وسنعمل على تغيير الواقع واعادة المستوطنين الى مستوطناتهم، ولكن هذا كما قال نصر الله في خطابه امس ، لن يكون بدون وقف الحرب العدوانية على قطاع غزة.
فلسطين – القدس المحتلة
[email protected]