عندما تحتاج الحرب إلى حربٍ أكبر منها!

ها هي الحرب تمتدّ وتتّسع، وهي على ما يبدو مرشّحة للمزيد من التعمُّق، ولأن تتخذ أبعاداً أكبر وأخطر، وتقترب في كلّ لحظة من حافة الانزلاق إلى حربٍ مفتوحة، وبما يحوّل خطوط التماس ما بينها وما بين الحرب الشاملة إلى خطوط هشّة، وبما يجعل الحدود بين هذين المستويَين سائلة وغير مرئية.

أثبتت الوقائع بصورةٍ كافية من اليقين أنّ “حزب الله” اللبناني يُمسك بكلّ مقاليد السيطرة والتحكّم لديه. فكما لم تمنع ما سُمّيت الضربة الاستباقية، والتي شاركت بها 100 طائرة عسكرية، وادّعت دولة الاحتلال حينها أنها دمّرت أكثر من 8000 منصّة وصاروخ! فكما لم تمنع تلك الضربة من ردّ الحزب آنذاك بأكثر من 340 صاروخاً، وعشرات المُسيّرات من كلّ الأنواع، ها هي الضربة الاستباقية الثانية، والتي هي ضربة أمنية واستخبارية على أعلى درجات الخطورة والأهمية، والتي استهدفت قتل أكثر من 5000 مقاتل وقائد وناشط من البيئة اللصيقة المباشرة للحزب، ها هي تفشل في منع الحزب من الردّ الواسع على مساحة جغرافية تزيد على ثلث المساحة المأهولة في دولة الاحتلال، ومن توجيه ضربات موجعة لعشرات الأهداف العسكرية، وغرف العمليات في كامل منطقة الشمال ولقواعد جوية ومصانع عسكرية، وعشرات الثكنات والمعسكرات والمراكز، في رد ما زال يعتبره الحزب مجرّد رد أوّلي على العدوان الإجرامي الذي وجهته دولة الاحتلال للحزب على مدار 3 أيام متتالية.
نسف رد الحزب 3 “نظريات” طرحت في الإقليم منذ اللحظات الأولى لـ”طوفان الأقصى”، وجرى الترويج لهذه النظريات في سياق الحرب كلّها: الأولى، اعتبرت أن مشاركة الحزب في هذه الحرب ليس أكثر من مشاغلة أو مناوشة لرفع العتب، وللظهور بمظهر أنّه مساند لفصائل المقاومة دون أن تشكل هذه المساندة إسهاماً نوعياً في مسار الحرب، ودون أن تتجاوز “لعبة” المشاغلة، ليتبيّن أن المسألة أكبر وأهم وأعمق وأخطر بكثير من مسألة المشاغلة والمناوشة، وأنّ الحزب  انخرط في هذه الحرب من موقع إدراكه التام لدوره النابع من المنظور الإسرائيلي لدور وقدرات الحزب، ومن منظور الحزب في رؤيته للمشروع الصهيوني، والخطر الذي يمثّله هذا المشروع على الحزب كدور ومكانة وكوجود، أيضاً، ومن موقع ومنظور أن الاستهداف الصهيوني له إنما يأتي في إطار، وفي سياق المشروع الأكبر للولايات المتحدة في منطقة الإقليم، وبالتالي فإن الحرب على القطاع ليست سوى المرحلة الأولى من هذا المشروع الأميركي، وإنّ المراحل التالية واللاحقة هي تصفية الحزب، أو تحجيم دوره إلى أقصى الحدود، والذهاب بعيداً فيه إلى درجة تهديد أو إعادة تهديد الدولة السورية، بحيث تبقى إيران مجرّدة من كل عناصر القوة الإقليمية، والمزايا النوعية التي تمتلكها عن كامل وعن كل ما تمتلكه أيّ دولة أخرى من دول الإقليم، وحيث تستحيل كل مخططات التحكّم بالإقليم من وجهة نظر الولايات المتحدة، و”الغرب”، ومن خلفهما دولة الاحتلال من دون المرور الإجباري بضرب هذه المفاصل، والتي انضمّت لها كل من “أنصار الله” الحوثيين والمقاومة العراقية.
واضح الآن وضوح الشمس أن أُطروحات “المحور الشيعي” وغيرها من “الشعبويات” التي تنتشر في الفضاء العربي والإسلامي، بما في ذلك الأُطروحات “الثقافوية” الليبرالية، وغيرها ليست أُطروحات قاصرة، ومكتنزة بالطائفية، وهي في نهاية الأمر ليست سوى تشوُّهات طرأت على مفاهيم الوطنية، والقومية، وفيها الكثير من التلوُّث الفكري والثقافي الذي أعمى أصحابه، وأفقدهم البصر والبصيرة.
الثانية، هي تلك التي تعتقد أن الحزب محكوم بسقف إيراني منخفض وأنّه في إطار هذه “المحكومية” لا يملك قراره الوطني اللبناني، وهو أسير الاعتبارات الخارجية.
من المؤكّد أن ثمة علاقة ما صحيحة على هذا الصعيد، وأن الحزب لا يخرج عن القرار الإيراني العام، ولا يمكن أن يعارضه أو يعترض عليه. لكن السؤال الأهم لا يكمن في قوة العلاقة والارتباط ــ على أهمية ذلك ــ وإنما على الموقع الإيراني من الصراع قبل كلّ شيء.
أقصد، هل يوجد مشروع قومي ووطني تتنافس معه إيران، وتحاول تعطيله؟
هل يوجد قوى وطنية وقومية تقارع الولايات المتحدة و”الغرب” ودولة الاحتلال ومشروعها الصهيوني إلّا ويلقى الدعم والمساندة من إيران، أين هي هذه القوى؟
بل أكثر من ذلك؛ هل يوجد في الواقع العربي، في إطار النظام العربي، وفي إطار القوى والأحزاب والمنظمات من يعتبر أنّ إيران هي دولة معادية للتحرّر الوطني والقومي دون أن تكون كلّها منخرطة في المخطّطات الأميركية و”الغربية” والصهيونية، إمّا مباشرةً أو بصورةٍ غير مباشرة؟
لذلك كلّه، فإنّ المسألة ليست في “متانة” العلاقة بين الحزب أو غير الحزب بالدولة الإيرانية، أو حتى بالمشروع الإيراني الخاص، وإنما في الدور والموقف والموقع الإيراني من المشروع المعادي، وفي الدور “الغربي” من إيران في إطار مخطّط الهيمنة على الإقليم، ومخطّط القضاء على كل من يقف ضد هذا المخطّط.
وأمّا الثالثة، فتتعلّق بفشل كامل مُنيت به إستراتيجية استبدال العدو القومي الذي يهدّد الأمّة كلها، ويطمح بثرواتها، وينهب مقدّراتها، ويفتّت الدولة الوطنية فيها، ويدمّر مجتمعاتها، ويشنّ الحرب العدوانية تلو الأخرى لإخضاعها، وبين قوى إقليمية ومنها إيران، وتركيا تعمل على تأمين مصالحها القومية، وهي في سعيها هذا، تحاول حشد كل ما لديها من أدوات، ووسائل تأثير، وأوراق تحاول توظيفها للوصول إلى أهدافها، وبما يحقق لها طموحاتها، وأحياناً أطماعها.
أقصد لقد سقطت نظرية الاستبدال والإحلال للعدو القومي، لأنّ العدو القومي لا يمكن تحديده وفق رغبات سياسية، أو خلفيات دينية ضيّقة، أو انتماءات مذهبية أو طائفية، أو حتى عرقية أو إثنية، وإنّما وفق ما تمثّله مثل هذه الاعتبارات من تهديد مباشر وإستراتيجي، وتناقضات مباشرة مع المصالح الوطنية والقومية المباشرة والبعيدة، ولا يجوز الاستمرار لاعتبارات سياسية خلافية في هذه الساحة أو تلك، أو في هذا البلد أو ذاك، أو حول قضية هنا وأخرى هناك المسارعة والتسرع باستبدال العدو القومي، خصوصاً إذا كان هذا العدو القومي نفسه يستهدف مباشرةً “العدو” الذي جرت محاولات يائسة لإحلاله في مكان العدو الحقيقي.
وبالعودة إلى هذه الحرب، فقد بات واضحاً الآن لكل من يرغب بالمراجعة والتراجع أن يرى أنّ القضاء على الحزب، وعلى كل فصائل العمل الوطني في فلسطين، وعلى كل طرف من أطراف “المحور”، هو الهدف المباشر للمشروع الصهيوني، وأنّ وحدة مكوّنات هذا “المحور” نابعة من درجة التهديد الذي يمثله المشروع الصهيوني المدعوم من “الغرب” بالكامل، والمستند إلى غياب مشروع وطني وقومي عربي، حقيقي وفاعل، وليس من علاقات تبعية، وليس له علاقة جوهرية من قريب أو بعيد “بنظريات” الاستخدام والتوظيف، بقدر ما أنّ الأمر يتعلق بوحدة المصالح والأهداف.
وعندما يتكشّف لنا أن دولة الاحتلال كانت قد جهّزت الخّطة لقتل 5000 من قيادات وكوادر ونشطاء الحزب على مدى سنين طويلة، وليس منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي فقط، وأنّ “الغرب” كلّه، خصوصاً المخابرات الأميركية والبريطانية، وربما غيرها وغيرها ضالعة في هذا المخطط الإجرامي.. عندما يتكشّف لنا كل ذلك ندرك بصورة أفضل بكثير أن ثمّة وحدة حال مفروضة على أطراف “المحور”، وأنّ خطة “الطوفان” كانت منسّقة بالكامل بين أطراف “المحور”، وأنّ إحباط المشروع الصهيوني المباشر هو الهدف المباشر، وأنّ مواجهة مخطّطات “الغرب” للهيمنة على المنطقة هو الهدف الإستراتيجي الجامع بين هذه الأطراف، وأنّ المسألة ليست، لا فزعة، ولا استعراض، ولا هي للتخلّص من حرج، أو مشاغلة ومشاغبة للتعمية على أهداف غامضة أو خاصة.
هذه الحرب الإجرامية ليست لها علاقة حقيقية، من قريب أو بعيد، بالأهداف التي أعلنتها دولة الاحتلال، لأن “إرجاع” مهجّري المستوطنات الحدودية لجنوب لبنان من سابع المستحيلات دون إنزال هزيمة كاملة ونهائية بالحزب، وإنزال مثل هذه الهزيمة هي من عاشر المستحيلات دون إسقاط إيران، ودون إسقاط الدولة السورية، ودون “احتلال” أو تدمير اليمن، وقبل كلّ شيء إنزال هزيمة ساحقة وماحقة بفصائل المقاومة في القطاع، والضفة، ولهذا بالذات فنحن أمام أهداف إسرائيلية كاذبة ومخادعة، وليست سوى شعارات للتغطية على استمرار الحرب الدموية والتدميرية، وهروب من استحقاقات الهزيمة الإستراتيجية التي مُنيت بها دولة الاحتلال، وتحاول من خلال بعض جوانب تفوقها في مجال القوة الجوّية، أو قوة قدراتها الاستخباراتية والتكنولوجية أملاً بإلهاء المجتمع الإسرائيلي عن حقيقة الهزيمة التي تشعر بها القيادات التي فشلت فشلاً مدوّياً في الجانب الاستخباري تحديداً في “الطوفان”، والذي أدّى فيما أدّى إليه حتى الآن إلى حضور كل أشكال الإجرام والتوحُّش، وكل فنون الإبادة دون طائل.
إذا نجحت دولة الاحتلال بوقف نزيف النزوح والتهجير عند رقم نصف مليون مهجّر، فسيحسب لها كإنجاز خاص في ظلّ غياب أيّ إنجاز من خارج دائرة الإجرام.