مرت قبل أيام الذكرى الأولى لاندلاع الحرب التي لم تتوقف بعد. وهي بهذا المعنى أطول الحروب في تاريخ الصراع الفلسطيني والعربي – الإسرائيلي. وربما كانت الأسوأ، بمعيار التدمير والوحشية، في تاريخ العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد جاء في الأخبار، قبل أيام، أن نتنياهو غيّر اسم الحرب من «السيوف الحديدية» إلى «حرب القيامة».
هي حرب قيامة، فعلاً، ولكن بدلالات مختلفة بطبيعة الحال. فهي، حسب ما يريد لها، إلى جانب ما يسمها من عنف غير مسبوق، ولادة إسرائيل الثانية، أي حرب القوّة الإقليمية الصاعدة، ومشروعها الإمبراطوري. وهذا ما نود الكلام عنه في هذه المعالجة، انطلاقاً من فرضية أن ثمة أكثر من قيامة، بمعنى أن الحرب لا تختزل في دلالة واحدة، والدلالة نفسها تُفهم بطرق، وتأويلات مختلفة، أيضاً.
ونقطة البداية، هنا، أن حرب القوّة الإقليمية الصاعدة تنطوي على نوع مُبهم، وملموس، من الهشاشة يصعب غض النظر عنه. يمكن تعيين الهشاشة في ثلاثة أمور: أولاً، حاجة القوّة الصاعدة للحماية بطريقة غير مسبوقة في حروب سبقت. وثانياً، عجزها على الإنجاز السريع على الأرض رغم قوتها النارية الهائلة. وثالثاً، العلاقة الإشكالية بين الانتصارات العسكرية التكتيكية والهدف، أو الأهداف، السياسية الإستراتيجية للحرب.
سيجد مؤرخو الحروب، وعلماء السياسة، الكثير من الوقت والشهادات والوقائع لتأمل الهشاشة المعنية، إما لدحضها بالدليل والبرهان، أو للبحث عن مصادرها. وفي كل الأحوال، لن تفشل مجتمعة، وفرادى، في لفت أنظار المهتمين من دارسي الإستراتيجية والحروب.
ولنفكر، الآن، في الحاجة للحماية، التي تتجلى في أكثر دلالة حرص الإسرائيليون في أوقات مضت على استبعادها (بحماسة غير مبررة أحياناً) من نظريتهم الخاصة للردع، القائمة على مبدأ الاعتماد على النفس، وعدم انتظار مساعدة من أحد، وهذا يشمل القوّة الأميركية نفسها.
وبالنظر إلى وقائع كثيرة على مدار عام مضى (آخرها وصول بطارية أميركية للدفاع الجوي مع طاقمها في الأيام القليلة الماضية)، فثمة ما يبرر القوّل: إن ثمة ظاهرة جديدة من السابق لأوانه الكلام عن تداعياتها النهائية، سواء على نظرية الردع، أو العلاقات الخارجية الإقليمية والدولية، ناهيك عن تداعياتها النفسية، والرمزية، والسياسية.
أما الدلالة الثانية، وهي وثيقة الصلة بنظرية الردع الإسرائيلية، فتتعلّق بالحرب الخاطفة. والواقع أن دخول الحرب في عامها الثاني يحرّض على الكلام عن تغيّرات طرأت على النظرية المعنية، إما نتيجة العجز عن تحقيقها، أو ترجمة لنظرية جيل جديد من الحروب. والأرجح العجز. وفي هذا الجانب، أيضاً، لا نعرف التداعيات بعيدة المدى العسكرية، والسياسية، ناهيك عن الاجتماعية والاقتصادية والمعنوية للتغيّرات المعنية، خاصة وأن جانباً من المعركة قد انتقل، بوتائر مختلفة، إلى الداخل الإسرائيلي نفسه.
وتطل علينا، مع الاقتراب من الدلالة الثالثة، علامات استفهام كثيرة، لا تفسّرها قوّة النيران، والانتصارات التكتيكية (كما حدث في ضربات سريعة ومتلاحقة لـ»حزب الله» على جبهة لبنان) ولا ما يتجلى في سياسات الثأر والانتقام من عنف وأهوال (كما حدث، ويحدث، للمدنيين في غزة وجنوب لبنان).
ثمة عبارة لكلاوزفيتس مفادها أن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أُخرى. والسؤال، هنا، ما هي السياسة التي يُراد للحرب الحالية تحقيقها في نظر صنّاع السياسة الإسرائيلية؟ ولعل في مجرّد التفكير في سؤال كهذا ما يضع قوّة النيران، والانتصارات التكتيكية، وسياسات الثأر والانتقام في سياق آخر، ومختلف تماماً.
يمكن الاستعانة بالدرس الأميركي بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) في محاولة للمقارنة. فقد شن الأميركيون، في سياق الرد عليها، سلسلة حروب على مدار عقدين من الزمن، أحرقوا فيها الأخضر واليابس (الصدمة والرعب) وحققوا انتصارات تكتيكية مُدهشة. ومع ذلك، ماذا حققوا بالمعنى الإستراتيجي؟ وأين هم الآن؟ والأهم من هذا كله أن سيرورة التدهور التي لحقت بالقوّة الأميركية تبدو وثيقة الصلة بالتداعيات بعيدة المدى لطريقة ردّهم على الهجمات المعنية، وما تلاها من حروب.
سيفكر عدد لا بأس به من الناس، من منطلقات مختلفة، في الاستيلاء على غزة، واحتمالات الهجرة والتهجير، وعودة الاستيطان، واحتمال التوسّع في مناطق في جنوب لبنان، كنتائج إستراتيجية بعيدة المدى. ومشكلة هذا التفكير أن في العودة إلى سياسات سبقت، دون الاستفادة من دروسها في الماضي، ما يدل على قصر النظر، لا على نظرة إستراتيجية بعيدة المدى، ناهيك عن حقيقة أن كل ما تقدّم يصلح كتفاصيل في إستراتيجية أشمل، ولا يقوم مقامها.
فلنفكر في أشياء كهذه وفي الذهن حرب سلامة الجليل (1982) والشريط الأمني لمدة عقدين من الزمن في جنوب لبنان، وحرب تحرير الجنوب. ولنفكر في الانسحاب أحادي الجانب من غزة، والرهان على «حماس» (بل ومدّها بالمال القطري عبر الوسيط الإسرائيلي) لفصل الضفة عن غزة، وتدمير مشروع الدولة الفلسطينية. ولنفكر في عودة المسكوت عنه، أي التوسّع الإقليمي والتهجير، وما لهما من تداعيات على مستقبل السلام مع الحواضر العربية (لا قيمة إستراتيجية للإبراهيميين، رغم تمثيلياتهم التلفزيونية، ورهانات نتنياهو الشخصية عليهم).
على أي حال، ثمة الكثير مما يُقال، وهذا ما سيكون موضوعاً للتفكير والتدبير في معالجات لاحقة. فحروب العشرية الثالثة طويلة، تغطي عقداً أو أكثر، وتنفتح على احتمالات كثيرة. فاصل ونواصل.