“اقتلوا كل شيخ وامرأة واذبحوا كل ذكر بما فيهم الأطفال، واعقروا بطون الحوامل واغتصبوا من الفتيات اللواتي لم يمسسهن رجل، فملعون من لا يبارك سيفه بالدم…” هذا ملخص لكثير مما يحتوي عليه “التناخ” من آيات تُبارك القتل وسفك الدماء والإبادة الجماعية، والتي تتلى في صلاتهم اليومية ويُبشرون بها من يقف ضد مشروعهم من البشر والحجر وحتى البهائم، وتستند إليها حكومة نتنياهو اليوم لتعبئة مستوطنيها على أن ما تقوم به هي حرب ” وجودية ومقدسة”، في تبرير لأعمالها الأجرامية ولعمليات التطهير العرقي بحق الفلسطينيين واللبنانيين على حد سواء، فضلاً عن طموحاتها الاستيطانية (سواء كانت قادرة على ذلك أم لا) إن في غزة أو الضفة الغربية وصولاً إلى لبنان، الذي لم يسلم من مخططها هذا حيث بدأ الظهور العلني للإعلانات الترويجية من قبل بعض الشركات العقارية الإسرائيلية لمشاريع بناء مستوطنات جديدة في الجنوب اللبناني، مستخدمة منصات التواصل الاجتماعي لبث إعلاناتها المستندة إلى نصوص وردت في كتابهم المقدس العبري “التناخ”.
أما كلمة “التناخ” فهي اختصار مشتق من أسماء الأقسام الثلاثة الذي يتألف منها كتابهم المقدس ويشمل: التوراة (التعليمات أو الشريعة، وتسمى أيضًا الأسفار الخمسة)، والأنبياء، والكتابات (كيتوفيم). ومنه خرج مسمى “العهد القديم” الذي يحمل 24 سفراً… وبحسب رواياتهم في”التناخ” فإن ربهم “يهوه” المتعطش للدماء، قد أجاز لهم بكل وضوح ليس القتل واستعباد الناس كل الناس فحسب بل ما هو أفظع من ذلك، إذ يأمرهم بتنفيذ الإبادات الجماعية في القرى والمدن التي يحتلونها وعدم التفريق بين صغير وكبير، وإن كانت في تأريخها تعود إلى مئات السنين، إلا أنهم ما زالوا ينفخون في أبواق حروبهم حتى يومنا هذا، وفيما يلي غيض من فيض آيات القتل والارهاب والاستعمار:
“وَاضْرِبُوا لاَ تُشْفِقْ أَعْيُنُكُمْ وَلاَ تَعْفُوا اَلشَّيْخَ وَالشَّابَّ وَالْعَذْرَاءَ وَالطِّفْلَ وَالنِّسَاءَ. اقْتُلُوا لِلْهَلاَكِ” ( حزقيال : 9:6).
“مَلعونٌ مَنْ يَعمَل عَمَلَ الرّب بِرَخَاء ومَلعونٌ مَنْ يَمنَعُ سَيفَهُ عَنِ الدَّمِ. ” ( إرميا 48 : 10 ). “اَقْتُلوا كُلَ ذَكَرٍ مِنَ الأطفالِ وكُلَ اَمرأةٍ ضاجعَت رَجلاً، وأمَّا الإناثُ مِنَ الأطفالِ والنِّساءِ اللَّواتي لم يُضاجعْنَ رَجلاً فاَسْتَبقوهُنَّ لكُم ” (عدد 31 : 17-18 ).
“كُلُّ مَكَانٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ يَكُونُ لَكُمْ. مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ. مِنَ النَّهْرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ، إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ يَكُونُ تُخْمُكُمْ.” (تثنية 11: 24).
“كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى مِنَ البَريةِ ولُبنَان هَذا إلَى الْنَهْرِ الْكَبيْر نَهْرِ الْفُرَاتِ جَميع أرْضِ الْحثّيَين وإلْى الْبَحرِ الْكَبيرِ نَحوَ مَغْرِب الْشَمْس يَكون تُخْمُكُمْ” (يشوع 1: 3-4).
وإن كنت لا أحبذ الدخول في تفصيل مدى صحة هذه الآيات من عدمها، وسواء كانت من آيات الكتاب الذي أتاه الله لنبيه موسى أم لا، بترك هذا الأمر لذوي الشأن والاختصاص، إلا أن جرس الحقيقة يأبى إلا أن يُقرع عند كل باحث وقارئ لهذه الآيات، خاصة وأن اليهود الصهاينة يرونها “مقدسة” ويستمدون منها ومن غيرها وعدهم الإلهي في وهم السيطرة على الشعوب لإخضاعها واستعبادها، والأمر لا يتوقف عند هذا الحد بل جرفوا معهم صهاينة الغرب الأمريكي والأوروبي فحذوا حذوهم كحق مقدس لإسرائيل في ذلك، وليس آخرها تصريح “أنالينا بيربوك” وزيرة الخارجية الألمانية: “أنه يمكن لإسرائيل قتل المدنيين في غزة لحماية نفسها”… مما يدفعنا إلى حتمية الربط بين هذه الآيات وما جرى للمنطقة في الماضي البعيد وما يحصل الآن في الشرق الأوسط، ليقودنا إلى نتيجة دراماتيكية واحدة لتدهور مجرى الأحداث حالياً في لبنان وفلسطين كمرحلة أولى من مشروع اسرائيل التوراتية (الموحدة أو الكبرى)، وذلك منذ أن وطأت أقدامهم أرض فلسطين إن في التاريخ القديم أو الحديث، ليبرز قاسم مشترك واحد يقف خلف كل هذه المصائب والفتن والحروب في العالم ألا وهو “التناخ”.
وإذا كان للشيطان من كتاب فهذا هو كتابه الذي من خلاله أُسس لمفهوميّ الأرهاب الديني والإبادات الجماعية عبر العصور حين أقدم الاسرائيليون على الدمج بين ماضيهم المُظلم وحاضرهم المُدّمر، وذلك من خلال أمرين، أولهما الإرهاب الديني وحروب الإبادة التي نفذتهم في القرون القديمة كل القبائل الاسرائيلية الإثنتي عشرة ضد شعوب المنطقة، وتبعتهم لاحقاً العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب وذلك خلال القرن المنصرم، وثانيهما في إرهاب الدولة المُنظم الذي باشرت به حكومات الاحتلال المتعاقبة منذ نشأة الكيان، لتُسجل حكومة نتانياهو الحالية أعلى مستويات الأرهاب والتطهير العرقي بين الدول منذ الحرب العالمية الأولى…. ولا بد بأن يتبادر للأذهان السؤال التالي، كيف لهذه الآيات الدموية أن تصمد ولا تندثر طيلة هذه القرون؟ والجواب أنّ رجال الدين من مختلف الطوائف (إلا ما ندر) قد أبقوا عليها في صفحات الكتاب العبري، فلم يتبرأوا منها أو يلعنوها، أو يحذفوها في الحد الأدنى… هذا لأنّ صنّاع “التناخ” قد حبكوا كلمات ربهم “يهوه” بوهم القداسة الذي أغشى بصيرتهم وأعمى قلوبهم أجمعين… وإن كانت الثورات التي اجتاحت أوروبا الغربية في القرون الوسطى ضد اليهود قد أخذت منحىً شعبوياً دينياً، فإن الأسباب المباشرة تبقى في جوهرها سياسية واقتصادية بامتياز لإرتباطها العامودي بملوك أوروبا الغربية وفقاً لمصالحهم الشخصية…
وإذا كانت مآسي البشرية في أولى اسبابها هي الحروب وما ينتج عنها من مجازر بحق الإنسانية، قد تفضي عادة إلى اعتذارات متبادلة بين طرفي الصراع ولو بعد حين، فإن حروب اسرائيل التوراتية لا تحتاج إلى أعذار مسبقة أو لاحقة لأن مفهوم الإبادة الجماعية مُكرس في عقيدتهم، فكيف إذا كانت اليوم بمباركة أممية؟ إنّ ما أوصل العالم إلى هذا الخراب وما سيتبعه من خراب أكبر ليس سوى الصمت المزمن عن هذه الآيات ومثيلاتها لسببين، أولهما لما تحمله من مضامين القتل والاغتصاب والتغيير الديموغرافي التي انتهجها ربهم “يهوه” حين أهلك مئات الألوف من البشر على يد ما أسماهم في حينه شعبه المختار، بعد أن دخلوا بلاد كنعان (فلسطين التاريخية) وأحدثوا صدمة القتل الجماعي، حيث فتكوا في شعوب المنطقة القديمة كافة، من الأموريين الساكنين عبر الأردن إلى الغرزيين فالكنعانيين والحثيين والجرجاشيين والحوبيين واليبوسيين، فذبحوا أطفالهم ونهبوا ممتلكاتهم واغتصبوا نساءهم وأحرقوا مدنهم وهدموا منازلهم، وكما في الأمس البعيد كذلك في الأمس القريب منذ العام 1948…وثانيهما بأنها قد أسست لمدونة تاريخية خطيرة ولأول سيناريو لفيلم من أفلام الرعب الحقيقي لا يتحمله حتى الكبار، وما كان ينقصه في أيامنا هذه سوى الإخراج السينمائي الحديث والإنتاج الحربي له في”البنتاغون” الأمريكي، الذي سارع كعادته إلى مباركة الآيات التوراتية هذه المماثلة لما حدث مع شعوب المنطقة القدماء، في إسقاط تاريخي لما يحصل اليوم ما بين فلسطين ولبنان، لكن هذه المرة باستخدام الطائرات المحملة بأطنان “يهوه الأمريكي” من قنابل الموت والدمار…
والسؤال الذي يطرح نفسه، إذا كانت واشنطن اليوم هي إله اليهود وسيفَهُم الذي يدمرون ويقتلون به، فمن كان “يهوه” الذي قاتلوا بسيفه في قديم توراتهم؟ وإذا كان التاريخ في توراتهم قد سجل انهزام أهل كنعان أمام جبروتهم فيما مضى لعدة أسباب…فإنّ التاريخ وإن كرّر نفسه اليوم بطريقة أو بأخرى إلا أنّ نتائجه تبقى مرهونة دائماً بإرادة الشعوب المضطهدة وقدرتها على الصمود، ومثلما تحدث التاريخ القديم عن الخراب الأول والثاني للكيان وزوال الزمن التوراتي، فإنه خلال المستقبل القريب سيتوقف عند الحافة الأمامية للحدود اللبنانية الجنوبية، بانتظار الحاضر المجيد الذي سيؤرخ لخراب الكيان الثالث، بعد أن هزمه غرور التفوق وحب الامتياز، في مواجهة شعب يقاتل من أجل البقاء والكرامة، في مواجهة رجال هم في الأصل رجال الله في لبنان…
عميد لبناني متقاعد