الحوارات الفصائلية والتهرّب من نقاش مسألة الأمن..

إضافة إلى جولات الحوار الفصائلية التي صار صعباً إحصاؤها من كثرتها، جرت جولة أخرى في القاهرة بين حركتَي «فتح» و»حماس» قبل حوالى أسبوعين، بدعوة ورعاية ومشاركة مصرية فعالة. والموضوع الأهم الذي طرح في هذه الحلقة الجديدة من الحوار هو تشكيل لجنة لإدارة قطاع غزة. والفكرة التي طرحت للنقاش هي إنشاء لجنة إدارية تشرف على حل المشكلة الإنسانية في غزة وإعادة الإعمار. وبعد أن كانت الفكرة مرفوضة جملة وتفصيلاً من قبل كل من القيادة الفلسطينية وحركة «حماس»، أصبح النقاش يتمحور حول صلاحيات ومرجعيات اللجنة. وعلى الرغم من أن هناك شبه تفاهم حول صلاحيات هذا الجسم، والتي تنحصر في القضايا الإنسانية وإعادة الإعمار دون أي دور سياسي، بحيث تكون خاضعة لإطار سياسي آخر مختلف عليه. فحركة «فتح» تريدها خاضعة للحكومة بشكل كامل ولا استقلالية لها بما في ذلك الاستقلالية المالية، أي أن الأموال التي من المفروض أن تأتي لهذه اللجنة يجب أن تصل من خلال الحكومة، ووجهة نظر «فتح» تقول إن هذه اللجنة عندما تستقل مالياً تصبح غير خاضعة للحكومة والسلطة عموماً وتصبح جهة سياسية مستقلة. بينما تريد «حماس» أن تكون الفصائل من خلال الإطار القيادي المؤقت الذي اتفق عليه في حوارات سابقة، أو هيئة موسعة أشبه بجمعية وطنية هي مرجعية اللجنة، وأن تكون لها استقلالية مالية. 

وجرى نقاش مسألة تشكيل حكومة توافق وطني «تكنوقراط»، ولكن كان هناك خلاف حول هذه النقطة أيضاً لأن «فتح» تقول هناك حكومة كهذه مشكلة الآن برئاسة محمد مصطفى ويمكن التعديل عليها، بينما «حماس» تريد تشكيل حكومة جديدة برئيس حكومة جديد. وهنا يمكن رؤية أن موقف «حماس» بهذه القضية منسجم مع موقف بعض الدول العربية وبعض الأطراف الدولية. حيث أن المطلوب إجراء إصلاحات جذرية لا ترى هذه الأطراف أن الحكومة الحالية قادرة عليها.
على كل الأحوال، لم يتم الاتفاق على شيء باستثناء العودة للقاء مرة أخرى لاستكمال النقاش بعد رجوع كل وفد لقيادته للتشاور. ويبدو واضحاً أن الخلاف ليس شكلياً بل هو يتعلق بمستقبل السلطة ومستقبل القضية الفلسطينية عموماً. فهناك أطراف لا تريد للسلطة بشكلها الحالي أن تعود لتحكم قطاع غزة، وتريدها أن تخضع لعملية إصلاح وتطوير لتكون قادرة على القيام بهذه المهمة. و»حماس» حولها شبه إجماع إقليمي ودولي بألا تكون سلطة حاكمة في غزة بأي شكل من الأشكال، لأن استرجاع سلطة «حماس» معناه فقدان أي شكل من أشكال الدعم العربي والدولي لإعادة الإعمار. وعودة «حماس» لحكم غزة تعني أن الحرب مستمرة ولا تتوقف من وجهة نظر إسرائيل، التي لا تريد «حماس» ولا السلطة في غزة، بل تريد جهة محلية تدير غزة، أي أن الموقف الإسرائيلي أقرب إلى الفكرة التي نوقشت في اجتماع القاهرة. وبطبيعة الحال رفض إسرائيل لرجوع السلطة لغزة مرتبط برفض فكرة وحدة الوطن التي تؤسس لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الأراضي المحتلة منذ العام 1967. وأهون على إسرائيل أن تعود «حماس» بطريقة مواربة وضعيفة ومكسورة من أن تعود السلطة.
إذاً الخلاف حول رؤية مستقبل المشروع الوطني، ولكن كل طرف له وجهة نظره التي تحافظ على مصالحه في هذا الحوار دون استبعاد العاملَين الإقليمي والدولي في هذا النقاش. ولكن الغريب فعلاً أن حركة «فتح» لم تطرح مستقبل سلاح «حماس» والفصائل في غزة. فلا معنى لتشكيل أي إطار سواء أكان لجنة إدارية مؤقتة تخضع للحكومة الشرعية أم حكومة توافُق تشرف بشكل كامل على غزة والضفة معاً دون حل مشكلة الأمن؛ فالتجربة طوال عشرين عاماً مضت تقول: إنه في ظل وجود ميليشيات مسلحة لا سيادة للسلطة ولا قدرة على التحكم بالوضع. فأي مجموعة مسلحة يمكنها أن تجعل من المستوى الحكومي أو الإداري مجرد مهزلة ومحط سخرية. ولا يوجد مبرر لعدم طرح هذا الموضوع الذي من دونه لن تكون هناك قدرة على تغيير الواقع في غزة، والذي يجب أن يتغير جذرياً إذا أردنا فعلاً حل هذه المأساة مرة وإلى الأبد.
قد تجادل الفصائل في موضوع السلاح بحجة الحفاظ على المقاومة، هنا ينبغي الرد بشكل قوي وواضح: هل يجب أن يبقى قطاع غزة بمواطنيه وبنيته ومكوناته خاضعاً لتجارب فاشلة ترجعه للخلف عقوداً طويلة بخسائر لا يمكن تعويضها، خاصة في البشر وكل ما أنتجوه في حياتهم؟ فلقد خاضت غزة حروباً منذ العام 2006 وحتى اليوم، وفي كل مرة نحصد الثكل والدمار لدرجة أن الحرب التالية تأتي قبل أن نتمكن من تجاوز آثار التي سبقتها. وبعد هذه الحرب سيكون الحديث عن مواجهة جديدة في غزة جريمة كبرى بحق الوطن. وهذا لا يعني أن القطاع سيكون خارج إطار مقاومة الاحتلال، بل يجب التفكير بدور بنّاء مختلف لغزة غير خوض الحروب المدمرة التي لا تقود إلى أي نتيجة. فيمكن لغزة أن تكون رافعة للاقتصاد الوطني بعد إعادة الإعمار، ويمكنها أن تساهم بشكل كبير في تعزيز صمود المواطنين بالمناطق المستهدفة في القدس والضفة الغربية حيث يكمن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. فالمقاومة لا تعني دائماً استخدام السلاح. ويجب أن يكون هناك وضوح وقرار وطني حازم بتجنيب غزة مأساة إضافية وكارثة أخرى تحت أي شعار أو ذريعة. وهذا يجب أن يناقش الآن ويتم الاتفاق عليه؛ فلا معنى لأي حكم في غزة إذا لم يتم إنهاء ظاهرة الميليشيات والازدواجية الأمنية وأي ازدواجية حكم.