بملابس مهندمة ذات لون جذاب يسير عبد الحميد بكر بخطى ثابتة على الرغم من تقدمه في العمر، واقترابه من الثمانين عاما، إلا أنه لا يزال حتى الآن يأتي من محافظة أسيوط ومعه قربة ماء يحملها على ظهره، وبها كمية ليست بالقليلة من ماء الورد الذي يختلط مع مياه «الحنفية» كي يمنحها طعما مميزا، وهنا يصبح للماء مذاق خاص، يميزه الشارب، لدرجة أن الجميع يعرف «عبدالحميد» جيدا، ويقبلون عليه فور رؤيته في أحد الموالد.
آخر سقا في مصر: بلف كل الموالد
منذ سنوات عديدة مضت أيقن الرجل أنه لا سبيل له سوى أن يحمل عن والده القربة ويتجول بها بدلا منه حبا في ذلك الأمر، ولكن والده رفض في بداية الأمر نظرا لحداثة سن «عبدالحميد» حينها، ولكن مع إصراره الشديد لم يجد والده بدًا سوى أن يوافق على طلب ابنه: «قولت يا بابا عايز أشيل عنك القربة، رفض وقالي يا ولدي أنت لسه صغار، ومش هينفع تشيلها علشان متضيعش هيبتها، دي ورثنا عن جدودنا لكن كنت أنا مصمم».
حملها «عبدالحميد» وهو يعلم جيدا قيمة ذلك الأمر، وقرر أن يتجول في سبيل الله، يسير خلف الدراويش يسقيهم من تلك القربة التي اعتبرها كنزا ثمينا ورثه عن والده: «بلف كل موالد مصر والناس كلها عرفاني، ومن حبي فيها بقيت أنام وهي في حضني، وبعتبرها عيل من عيالي، أنا من غيرها مقدرش أعيش يوم واحد، ورغم تعبي من اللف في الشوراع إلا إني مستحيل اتخلى عنها غير بموتي، ده أنا ببقى هموت لو خلصت وفيه واحد عطشان».
في سبيل الله يسير الرجل، يريد فقط إشباع رغبته التي لا يعلمها أحد، ويرى أن هذا الأمر لا شأن لأحد به، فلا يسمح لأي شخص أن ينتقده: «أنا راجل مجند في خدمة أولياء الله الصالحين ومينفعش حد يعرف الأسباب علشان دي حاجات روحانية».
يترك العجوز زوجته وأبناءه الخمسة ويخرج بشكل شبه يومي في رحلة شاقة وهو يحمل على ظهره قربة الماء، وعلى الرغم من وزنها الثقيل، إلا أنه يحملها بكل سلاسة وكأنه لا يحمل شيء: «بروح كل المواليد، في كل القرى والمحافظات دي خدمة ومقدرش أتأخر عنهم لحظة واحدة».
خارت قواه وأصبح يسير ببطء شديد وهنا قرر ملء القربة من أقرب مصدر ماء بدلا من الذهاب إلى رحاب الحسين كما كان معتادا في الماضي: «بروح لأقرب حنفية وأملأ القربة، وأكمل مشي بين الناس ولما أتعب بقف جنب المقام وأمد إيديا للناس بالمياه أنا مهتم بالنضافة جدا، والكوبايات بغيرها دايما علشان كده الناس كلها بتحبني وعرفاني، وطول ما أنا فيا نفس هفضل شايل الأمانة».