بين جدران محل صغير سقط لون طلائها، لا يتسع سوى لكرسي خشبي وطاولة تحمل أنواع محدودة من الحلوى ومكواة موضوعة في إحدى الزوايا، تقضي «أمينة حمزة» ساعات طويلة من يومها، ترعى «لقمة عيشها»، يعرفها أهل المنطقة بأمانتها في البيع والشراء وحرفتها في كي الملابس، لا تلقي بالا لنظرات البعض التي ترمقها في دخولها وخروجها، طريقا سلكته منذ نحو 6 سنوات لا مفر منه ولا رجع فيه لملء بطون صغارها دون «الحوجة» لأحد.
مبكرًا وقبل أن ترى من الحياة نعيمها، بدأت رحلة الأم أمينة مع «الشقا» لا حيلة لها ولا مورد رزق يسد أفواه صغارها، طرقت أبواب أصحاب الأشغال المتاحة أمامها لم تترك مهنة إلا وعملت بها، لم تجد مستقرا في واحدة منهم حتى قررت استئجار محل صغير خصصته لبيع الحلوى وأصناف محدودة من السلع الغذائية، بل وصل بها السعي إلى شراء مكواة لكي الملابس داخل المحل نفسه، «مفيش سيولة في الفلوس أجيب بضاعة كتير، اشتريت مكواة وبقيت أكوي هدوم لأهل المنطقة»، مستغلة في ذلك حرفتها في كي الملابس حيث تعلمت من خلال عملها في أحد المصانع عدة أشهر، بحسب روايتها لـ«» بينما كان تركيزها كله حينها، منصب في كي قميص أعطاه لها أحد الجيران لكيه.
النحلة تشبيه جيد لها، صارت «أمينة» كالنحلة، تعد الفطور وتعيد ترتيب البيت في عجالة في صباح كل يوم، وتغادر منزلها الكائن بشارع جانبي في حي الوراق، بخطوات سريعة شاردة الذهن حتى تستقر قدماها عند محلها، تفتح أبوابه من العاشرة صباحا لا تغلقه إلا وقد غربت الشمس، لتبدأ مرحلة جديدة من يومها، تتابع فيها أطفالها الستة، «برتب يومي بين المحل والبيت، بطلع أعملهم الأكل وانزل وارجع آخر اليوم أتابعهم في المذاكرة بعد ما يرجعوا من المدرسة»، تخشى الاقتراب من خزانة أحلامها التي تشبه أي سيدة ثلاثينية في مثل عمرها.
يضيء وجه «أمينة» وهي تحكي عن نجاح ابنتها الكبرى «آية» تصفها في حديثها دوما بـ«المتفوقة»، وعن أحلام طفلتها الوسطى التي وصلت بها إلى حد الشهرة في مجال تصميم الأزياء، تدخر الجنيه فوق الآخر لتعليم أبنائها لم تبخل عليهم بشيء قدر استطاعتها، «أوقات كتير بستخسر أجيب لنفسي حاجة جديدة عشان أوفرلهم فلوس لتعليمهم ولبسهم»، كلمات تقولها الأم بنفس راضية، وكأنها تجني حصاد زرعتها في صغارها.
«المكواة» التي تمتلكها أمينة اشترتها قبل أشهر قليلة بالتقسيط لتعمل عليها، لم تخجل من وصفها في بعض الأحيان بـ«المكوجية»، تضع «الفيشة» في الكهرباء، تسري الحرارة بالمكواة بسرعة شديدة، تمسك بالملابس المبعثرة من حولها لتبدأ كيهم بالترتيب، لم تسلم من حرارتها التي تلامس جلدها فجأة فتنتفض من شتاتها الذي ذهبت به في رحلة مع الذكريات الصعبة التي عاشتها، «هتكسف من إيه الشغل مش عيب، العيب إني أمد إيدي للناس عشان يأكلوا ولادي»، تقول وتشير بيديها إلى بضاعتها وكأنها أعظم انتصاراتها.
انتقصت «أمينة»، من حكايتها الكثير ما زال في خزانة ذكرياتها تفاصيل تخشى الاقتراب منها، حتى لا تسقط القشرة الواهية التي تسند روحها، جلست في حالة إنهاك شديد تكشف قليلا عن أحلامها البسيط «نفسي أسدد فواتير المياه والكهرباء المتراكمة عليا ونفسي أملا المحل بضاعة والمكواة تبقى مغسلة كبيرة» حرصا منها على كسب قوت يومها ب«عرق جبينها»، بحسب وصفها.