على تروسيكل أصفر صغيرا، بعيدا عن سوق المأكولات البحرية، انهمكت في تنضيف الأسماك المحبط به الثلج، رغم برودة الشتاء القارس، بابتسامة حنونة تستمد قوتها من آيات القرآن الكريم بجوارها، متمنية أن تستمع يوما عبر المذياع نفسه لآيات الذكر الحكيم من نجلها الكفيف الذي تعمل بجد لأجل تعليمه وإعانته على صعوبات الحياة مع شقيقته.
بشارع نجف الجامعة، في مدينة طنطا التابعة لمحافظة الغربية، وتحديدا أمام مدرسة أم المؤمنين، حجزت «منال» أو «أم محمد» كما اشتهرت بني زبائنها، مكانها شبه الثابت لبيع الأسماك، لأجل مساعدة زوجها، في توفير نفقات تعليم نجلهم الكفيف الطالب بكلية القرآن الكريم للقراءات وعلومها بجامعة طنطا، وكذلك شقيقته الطالبة بالصف الثاني الثانوي.
«منال» تساعد زوجها ببيع الأسماك
«أم محمد»، 45 سنة، تعيش بمدينة طنطا برفقة أسرتها المكونة من زوجها ونجلها «محمد» وابنتيها الصغرى «حبيبة»، والكبرى «دعاء» التي انتقلت إلى منزل زوجها قبل فترة قصيرة، إذ عرفت طريق الشقاء والسعي والاجتهاد قبل أكثر من 20 عاما، حينما تعرض ابنها لمشكلة صحية تسببت في فقدانه لبصره وهو طفل لم يتخطى عمره الـ3 سنوات، لذا عند وصوله لسن الدراسة كانت تصطحبه يوميا لمدرسته البعيدة عن محل سكنهم، وتنتظره في الشارع حتى ينهي يومه الدراسي لتعود به إلى المنزل: «لقيت نفسي بيضيع وقت كبير في الشارع، قولت استفيد منه وأبيع أي حاجة أساعد بيها أبو عيالي في مصاريفهم وتربيتهم».
وبعد بحث بسيط عن السلعة غير المتوفرة في شارع مدرسة النور والأمل للمكفوفين بطنطا التي التحق بها نجلها، ونصائح عدد من المدرسات بالمدرسة، قررت الأم أن تبيع أسماك بنفس الشارع، مثل زوجها بائع السمك في شارع أخر، بحسب ما قالته «أم محمد»، في حديثها لـ«»، لتبدأ منذ ذلك الحين رحلتها للبيع لأكثر من عقدين، استطاعت خلالها أن تساعد رب الأسرة في زواج نجلتهما الكبرى وتعليم أبنائهما.
لم تخش الأم، تعرضها للمضايقات في الشارع، إذ كانت دائما متسلحة بقدراتها على التعامل مع أي شخص، بسبب صبرها أمام أي شقاء لأجل تحقيق أمنياتها: «الشارع فيه الحلو والوحش، واستحملت عشان ابني وبناتي كتير، ولسه مكملة سعي عشانهم».
تروسكيل «أم محمد»
وفي ذلك الكفاح، لاقت «أم محمد» من الكثير، إذ كان يحرص أحد سكان الشارع على حفظ «فرشتها» وأدواتها التي تستخدمها في تنظيف الأسماك قبل بيعه داخل منزله لسنوات، قبل أن تتمكن منذ شهرين فقط في أن تشتري التروسكيل الخاص بها، الذي تستخدم حاليا صندوقه لعرض أسماكها، كما تعتمد عليه في تنقلاتها اليومية من منزلها إلى أماكن بيع الأسماك، ثم للشارع الذي تقف فيه، ثم تعود به نهاية اليوم إلى بيتها بعد أن تنتهي من بيع بضاعتها: «أول ما اشتريته اتعلمت السواقة عليه في مكان واسع، صحيح لسه مش بعرف أرجع بيه للخلف، بس بتعامل».
حلم «أم محمد»
كل سنوات الشقاء التي عايشتها الأم الأربعينية، بحب دون كلل أو غضب يوما ما، من أجل حلم واحد فقط يداعب خيالاتها في يقظتها قبل منامها، هو تمكنها من تزويج نجليها: «نفسي افرح بمحمد وحبيبة وأجوزهم زي ما جوزت دعاء، ويعيشوا كلهم حياة كريمة من غير مرمطة، وإن شاء الله هقدر ببيع السمك».