تماثيل من طين مصر، تحمل بين ثناياها إبداعا وليدا، يغلب على جفونها الارتخاء، وتكاد تنطق رغم ما بها من صمت. يقف خلف كل تمثال صاحبه رافعا رأسه للسماء بابتسامة المنتصر، فأن تصف ما ترى عيناك أقل قيمة من أن تصف ما يرى قلبك.
«الآن.. يمكنني أن أرى»، بهذه الكلمات وصف الفنان التشكيلي أنجلو رفعت، تجربة 4 أشهر قضاها بين جدران مدرسة النور للمكفوفين، بمشروع «موهبتي»، فبمجرد دخوله المدرسة الحكومية الداخلية في سوهاج انقلب حاله؛ ووجد أن الله قد أرسله إلى هؤلاء الأطفال لغاية ما.
فبعشرة طلاب بالمراحل تعليمية بين الابتدائي والثانوي أبدوا اهتمامًا بالفن التشكيلي، وبثلاث ساعات يوميا لمدة 4 أشهر تخللتها إجازات من التدريبات لأداء الامتحانات، وصل «أنجلو» بمبدعيه الصغار إلى إنجاز ليس بالقليل.
في لقائه الأول بهم، اقترب منه الصغار يتحسسون وجهه في خجل، ويحركون أناملهم الصغيرة على تجاعيده يحددون بذلك ملامحه وسماته، ويرسمون في مخيلتهم الرحبة أشكالا وا من قسماته.
يمسك بأكفهم الصغيرة ليستشعروا نعومة الطين وما يمكن أن يشكلوه بلِينه، ثم عرفهم على الأشكال ومعانيها، وال ودلالاتها وإن لم يفهموها أو يروها، تساءل في نفسه هل من الممكن أن يستطيعوا استيعاب كل ذلك، وكيف يمكنهم تخزين كل هذه المعلومات التي تحتاج ذاكرة بصرية قوية، لكن ذاكرتهم الحسية حسبما أوضح «أنجلو» لـ«» أذهلته.
كانت هي المرة الأولى التي يتعامل فيها الفنان الشاب البالغ من العمر 29 عاما مع مكفوفين، لكن استيعابهم المبهر وضعه في حيرة، فكيف استطاعوا إجادة أمور لم يجدها المبصرون في هذه الفترة البسيطة، «بحثت عبر الإنترنت عن تعليم المكفوفين وهل نجحت تجارب مماثلة أم لا، وبالفعل نجحت بعض التجارب، لكنها كانت مقتصرة على الرسم وبعض الأعمال البسيطة للفن التشكيلي، وانتهت حيرتي بعد اختيار الأطفال العشرة نتيجة استيعابهم السريع».
نجاح التجربة
يرجع «أنجلو» نجاح التجربة مع المكفوفين وخروجها بهذه النتائج على عكس المبصرين الذين يحتاجون فترة أطول للعمل بهذه الأعمال إلى تركيزهم وعدم تشتت انتباههم، «مفيش زحمة ذهنية عندهم، وقدروا من خلال مجسمات تدريبية للوجه والعين مصنوعة من الجبس فهم معنى النحت وملامح الوجه، بل وأبدعوا في إضافة بعض التفاصيل في منحوتاتهم، فمنهم من أضاف شاربا أو طوق للشعر أو حلقة شعر معينة».
يتذكر «أنجلو» طلابه ويكن محبة خاصة لـ يوسف أنور، الطالب بالصف الرابع الابتدائي، الذي يعاني ضعفا شديدا في النظر.
عامل مشترك بين منحوتات الصغار، فتماثيلهم مسدلة العينين كأنها ستار، «رغم أنهم تعلموا وعرفوا التشريح الكامل للعينين عن طريق تحسس مجسمات من الجبس إلا أنهم عندما نفذوا أعمالهم بشكل نهائي اختاروا هذه الهيئة».
يرى «أنجلو» أن القدر ساقه لهم وساقهم له، فهو الشاب الذي لم يستطع دخول كلية الفنون الجميلة التي يحلم بها، والتحق بكلية العلوم بجامعة سوهاج وانتظر أن ينتهي منها ليسير في الطريق الذي يحب، «عشت في بيت فنانين، والدي فنان وبيرسم أعمال خاصة بالكنيسة وكذلك أخويا الكبير، وكانت فترة الدراسة من أصعب فترات حياتي لعدم حبي ليها، وأصبت فيها باكتئاب، عشان كدا كنت بشترك في المسابقات الفنية لتحقيق حلمي القديم، وقدرت أحقق المركز الأول في مسابقة “إبداع 2” على مستوى جامعات مصر في مجال الرسم، وغيرها من الجوائز، وليا جداريات في جامعة سوهاج، وانضميت إلى لجنة مشكلة من المحافظة لتجميل ميادينها».
مؤسسات المجتمع المدني
يعول الفنان الشاب على مؤسسات المجتمع المدني التي يمكنها أن تنمي هذه المهارات لدى الأطفال لقلة ذات يدهم، ويرى أن مشروع «موهبتي» يرجع فيه الفضل لعدد من الأشخاص منهم أبنوب جرجس المسؤول عن المشروع، وكذلك دعم مؤسسة مصر الخير، وسحر شنيف رئيس مجلس إدارة صحبة الخير بسوهاج.
لم يكتف الأطفال بهذا النشاط فقط بل اشترك عدد منهم بأكثر من نشاط ومنهم من اشترك في فنون المسرح والغناء وحفظ القرآن والإنشاد والتمثيل والتدريب على الآلات الموسيقية المختلفة، وكان حفل الختام مبهرا بكل أنشطته.
رسخ هؤلاء الأطفال معنى الإلهام في نفس الفنان الشاب، وساقهم وساقوه إلى طريق من نور؛ رغم ما أحاطهم من ظلام.