حياة قاسية يعيشها عدد كبير من عمال «الديليفرى»، الذين تركوا ذويهم فى محاولة للبحث عن الأموال، جاءوا إلى محافظة القاهرة واستقروا فى نطاق مدينة نصر، حيث المطاعم الشهيرة التى تحتاج دوما إلى «طيارين»، الحياة بكل تفاصيلها شاقة عليهم بشكل كبير، ولكن ربما الأمر الأكثر صعوبة هو تلك الغرف الصغيرة الكامنة فى الطوابق الأرضية للعقارات فى منطقة الحى العاشر، حيث هى الملاذ الآمن لهم، والتى تكفل لهم الراحة بعد الشقاء.
«وليد»: عايشين ١٤ شخص فى أوضة واحدة علشان نوفر جنيهات لعيالنا
وليد نجم «طيار ديليفرى»، ورفاقه من بين هؤلاء الذين تركوا بلادهم واستقروا فى مدينة نصر، واتخذوا من تلك الغرف الصغيرة التى ربما لا تسع سوى شخصين مستقراً، حيث إنها تضمن لهم الراحة المؤقتة بعد عناء يوم عمل شاق، ورغم كونها غير مؤهلة للسكن الجماعى نظراً لضيق مساحتها ووجود «حمام» واحد يخدم ١٤ فرداً، فإنهم يعيشون بداخلها سعداء راضين.
منذ ما يزيد على 10 سنوات، جاء «نجم» إلى محافظة القاهرة محملاً بالآمال بعدما عانى لسنوات من البطالة، ليُقرر اللجوء إلى العاصمة، فى محاولة جديدة للبحث عن الرزق الحلال، ولكن ربما اختلفت تلك المرة كثيراً عن محاولاته السابقة لإيجاد عمل شريف، لأنه قرر شراء موتوسيكل يستخدمه كوسيلة لنقل طلبات الزبائن: «كل الظروف كانت ضدى، وماكانش قدامى أى حل بديل، الحياة فى بنى سويف كانت صعبة والحال مش حلو، وأنا راجل تعليمى على قدى وفى رقبتى كوم لحم، كنت باروح أشيل طوب ورمل وزلط، لكن الصحة دلوقتى مابقتش زى الأول، وعلشان لقمة العيش كان لازم أفكر فى حل بديل، وماكانش قدامى غير الديليفرى بعد ما لاقيت ناس كتير من البلد شغالة فى المهنة دى».
داخل غرفته الصغيرة يجلس الثلاثينى مع أكثر من ٧ أشخاص فى مساحة لا تتجاوز ٩ أمتار، يفكر فى متاعب الحياة الكثيرة، التى يواجهها «وليد» بالابتسامة والتفكير فى مصير أطفاله الأربعة، لو قرر ترك تلك المهنة الخطيرة على حسب تعبيره: «الموتوسيكل أخطر مغامرة، لأنه ممكن ينهى الحياة فى لحظات زى ما حصل مع ناس أعرفهم، علشان لو أى حاجة على الطريق ولو بسيطة ممكن تقلبه، وأنا نفسى عملت حادثة من سنتين، وكانت رجلى هتروح فيها».
داخل تلك الحجرة الصغيرة التى يقطن بها «نجم» كانت الأوراق المبعثرة المنتشرة فى جميع أرجاء الحجرة توحى بأن هذا المكان ربما لم يتم تنظيفه منذ سنوات بعيدة، لانشغال الجميع بالعمل ليل نهار، ولم يكن السرير الصغير المكون من شكائر تغطيها بعض بقايا الأقمشة المتهالكة بعيداً عن عدم الترتيب هو الآخر، بل بدا وكأنه قطعة قماش بالية ينام عليها ٤ أشخاص إلى جوارهم حصيرة مفروشة على الأرض، وفى آخر الغرفة صندوق خشبى معلق ومثبت على الحائط بداخله ملابسهم المتناثرة دون تنسيق، لعدم وجود «شماعات» فى الغرفة.
حوادث «عمال الديليفرى»، تتكرر كثيراً لأنهم يعملون فى ظروف صعبة تحتاج منهم إلى السرعة الكبيرة فى إنجاز المهام المكلفين بها، وهنا تكمن الأخطاء وتقع الحوادث التى قد تنتهى معها الحياة، والتى يوضحها «نجم» بقوله: «بنخرج وعارفين إننا ممكن مانرجعش تانى، خصوصاً إن فيه ناس كتير بتتعامل معانا وكأننا مش موجودين، يعنى تلاقى حد بيزنّق عليك بدون مبرر، وواحد تانى لو خبطك وكان هو اللى غلطان يبص بقرف ويمشى، ودى حاجة مؤذية نفسياً جداً، وأنا عن نفسى انقلبت بالموتوسيكل أكتر من مرة، وكنت هاروح فيها لولا ستر ربنا».
لم يختلف الحال كثيراً لدى محمد عيسى «طيار ديليفرى»، الذى كان يعمل فى محافظة سوهاج بمهنة المعمار «عامل محارة»، حتى سقط من الطابق الثالث، وهنا تبدّلت الأحوال كثيراً بعدما علم أنه بحاجة إلى إجراء جراحة تكلفتها ٣٥ ألف جنيه، حتى يتمكن من القيام بمجهود شاق فى الأعمال الخرسانية، كما كان فى وقت سابق: «ماكانش معايا فلوس، فماعملتش العملية، علشان كده مابقاش ينفع أشتغل تانى فى المعمار، فقلت آجى القاهرة علشان أسترزق من شغلانة الديليفرى، ولو كنت لاقيت غيرها ماكنتش اشتغلتها، لأننا بنشوف كتير بسببها، وأوقات بابكى من معاملة الزباين».
بدأ الثلاثينى العمل بتلك المهنة الشاقة منذ ما يزيد على ٤ أعوام تنقّل خلالها بين عدد كبير من المطاعم حتى استقر بمدينة نصر: «أنا باشتغل أكتر من ١٧ ساعة يومياً علشان أصفّى فى آخر اليوم ١٢٠ جنيه بادفع منهم إيجار وباشتغل مع كذا مطعم فى نفس الوقت، علشان الشغل مش مضمون، يعنى ممكن فجأة تلاقى نفسك قاعد عاطل من غير شغل لو صاحب المطعم قال لك اقعد النهارده».
صعوبات كثيرة تواجه عمال الديليفرى، حسب «محمد»، الذى يؤكد أنه لا بد من وجود تأمين على حياة «طيارى الديليفرى»، نظراً لتعرّضهم المستمر للحوادث، إلى جانب تأمينات اجتماعية، نظراً لعدم استقرارهم فى العمل: «لو حصل لى حاجة محدش هيدور عليا، وفيه ناس كتير من زمايلنا راحوا فى حوادث من غير ما حد يسمع عنهم حتى، علشان كده نفسى الدولة تهتم بينا علشان إحنا نستحق الحياة بشكل أفضل من كده».
لم يكن تأسيس شركة تعمل فى مجال الشحن بالأمر السهل، ولكن «أسامة إمام»، من محافظة القليوبية، مندوب شحن، قرّر أن يتحدّى تلك الظروف التى وقفت أمامه منذ بداية عمله «طيار ديليفرى» منذ عدة أعوام مضت فى محاولة منه للتعبير عن الأوضاع الصعبة التى يعيشها أبناء تلك المهنة: «فضلت شغال ٣ سنين ديليفرى، وبعد كده صاحبى قال لى ما تيجى تدخل أبليكيشن توصيل، طالما معاك موتوسيكل، بدل ما انت شغال للمطاعم بفلوس قليلة كده، ومن هنا بدأت أطور نفسى وخصّصت الموتوسيكل بتاعى لنقل الأفراد».
عقبات كثيرة وقفت أمام طموح «إمام»، ولكنه تمكن من التغلب عليها ونجح فى تأسيس شركة شحن محلية، فى محاولة منه لتنظيم عمل الديليفرى بشكل يضمن لهم الاستقرار: «لما تكون شغال تحت اسم شركة ده بيكون أفضل وأضمن، علشان فى بعض الأحيان بيكون فيه تجاوز فى حق طيارين الديليفرى من العملاء، وفى الحالة دى بنقدر نرجع للديليفرى حقه، طالما مش غلطان فى حق العميل».
حوادث الديليفرى متعدّدة، حسب مصطفى عماد «طيار ديليفرى»، والذى يؤكد أن هناك عدداً كبيراً من زملائه تركوا المهنة بعدما تعرضوا لحوادث مميتة، أجبرتهم على ترك المهنة: «صاحبى قدام عينيا راحت منه رجله فى حادثة، ومالقاش حتى حد يقول له سلامتك، الكل اتخلى عنه، وعلشان مفيش تأمينات راح هو الضحية، وده مخوفنى من يومها، مرعوب من فكرة إنى ممكن أبقى زيه فى يوم وأخسر جزء من جسمى، علشان كده نفسى يكون فيه اهتمام أكتر بينا، أو يكون لينا نقابة خاصة تشوف مشكلاتنا».
«مصطفى»: بعض الناس بيتعاملوا مع مهنتنا بشكل مهين وتؤذينا من غير ما نكون ضرناهم فى حاجة
تعامل بعض العملاء مع طيارى الديليفرى، يجعلهم يشعرون بالدونية، حسب ما يؤكده «مصطفى»، الذى يرى أن تعامل العملاء ونظرتهم لهم لا بد أن تتغير: «بعض الناس بتتعامل مع مهنة الديليفرى بشكل مهين، وفيه ناس ممكن تؤذينا من غير ما نكون ضرناهم فى حاجة، نفسى الناس تتعامل معانا بشكل كويس».