باب خشبي قديم يتوسط شارع الصنادقية بحي الحسين، يقود الزبون إلى محل صغير، يختبئ بين المحال الفارهة، بالكاد يكفي لاستيعاب أدوات صاحبه لبيع منتجاته، حوائطه تشبعت بلون داكن لا تميزه العين من شدة قدمه، ورائحة الطعام المنزلي الأصيل تداعب الأنف فور دخوله، يعج بالأطباق والطواجن ويتوسطه ثلاجة متواضعة وفرن صغير الحجم، أما جوه فيميل للدفء، ما يجعل الزبون لا يشعر بالغربة فيه وكأنه دخل منزل جدته القديم، هنا محل «عم هشام» أقدم بائع زبادي في مصر.
هشام مصطفى ياسين، رجل عمل بالنصف الأول من عمره في مجال الذهب، يبيع ويشتري كصائع، وعرف خبايا المعدن الأصفر وكيفية تنظيفه وأسعاره، قبل أن يتوفى والده فجأة، الأمر الذي دفعه لتحويل كاريره إلى بائع زبادي، تلك المهنة التي مات عليها والده، فأخذ سرها منه واستمر فيها لسنوات طويلة يبدع في تقديمها على الطريقة «البلدي» القديمة، ويسعى دائما لتطويرها.
«من فات قديمه تاه».. مثل وحكمة قديمة تداولت بين الناس، تقال كنصيحة لمن يحاول ترك ماضيه وإهماله، متشبثًا بما لديه من جديد، في إشارة إلى أن من يفعل ذلك يصيبه التيه، تلك النصيحة التي استوعبها «عم هشام» جيدًا، ما دفعه ليترك حرفته التي برع فيها وأمضى بها سنوات طويلة، ويذهب إلى مهنة والده وجده الكبير، وهي صنع الزبادي، ليصبح «عم هشام»، أشهر بائع لها في المنطقة، ويقصده المارة من وسط المحلات، كونه أقدم محل متخصص فقط في بيع الزبادي.
يعود تاريخ محل الرجل الخمسيني إلى عصر الملك فاروق، وفقًا لحديثه لـ«»، حيث عمل جده بالمهنة منذ عام 1946، قبل أن يرحل ويتولى والده مسؤولية المحل، وكحال الدنيا المعهود رحل والده وتسلم هو راية المهنة من بعده، «من سنة 1999 وأنا واقف مكان أبويا في المحل وقررت أبعد عن الدهب واشتغل في الزبادي وحبيت شغلي وماقولتش إنه عيب بعد ماكنت في الدهب أبيع رز بلين ومهلبية».
يتشبث «عم هشام» الحاصل على ليسانس لغات، بالطريقة القديمة لصنع الزبادي والتي عهد عليها والده وجده، وهي طبخبها بالطريقة البلدي في طاجن من الفخار، وتسويتها في طاقة من الفرن بالفحم، ولعل تلك الطريقة القديمة هي سر تعلق الزبائن بالمحل، «أنا معرفش أشتغل غير بالطريقة دي، الفحم بيشيل أي زفارة في اللبن، والطاجن بيسوي الزبادي كويس وبيخليها بتدوب في البق، وده اللي بيخلي الناس تشتري الزبادي بتاعي أكتر من المعلب».
شهادة الزبائن في بائع الزبادي جميعها جاءت مشيدة بمنتجاته، والتي طور منها مع مرور الزمن، وأصبح يبيع القشدة والحلاوة والمربى، ويضيف العسل إلى الزبادي ليعطي لها مزاق السكر غير المزعج، وعلى الرغم من المجهود الكبير الذي يقوم به في صنع الزبادي، إلا أن سعرها يتساوى بالمصنعة جاهزة وربما أقل، «أنا ببيع لطبقة ناس غلابة، مينفعش استغل حبهم للزبادي بتاعي وأغلي عليهم، وربنا بيبارك في الرزق القليل، ولو قارنت حجم الزبادي بتاعتي باللي بتتباع برة هتلاقي بتاعتي أكبر».
أسرة عم هشام مكونة من زوجة وولدين أحدهم تعليم متوسط والآخر مهندس، رباهما من عرق جبينه، ورزق الزبادي التي صنعها بيديه، ورغم ذلك لا يرغب أن يأخذوا مكانه بعد رحيله، «مهنتنا صعبة جدا ومرهقة وماتمناش حد فيهم يتعب زيي، وبحلم المحل ده يكبر ويوسع ويكون سوبر ماركت كبير في مكان أوسع من ده.