أحمد أيمن- مصاب التوحد غير الناطق
على أريكةٍ يجد راحته عليها -دون غيرها- وسط غرفة معيشته في منزله، جلس «أحمد» وحرارة الجو بلغت ذروتها، ملامحه عكست شعوره وهو يحدق بعينيه في شاشة حاسوب لوحي «تابلت»، وقد وقع اختياره على تطبيق إلكتروني صار رفيق يومه، وصوته الذي يعبر من خلال أيقوناته عن مشاعره، فهو لا يتحدث إذ يعجز لسانه عن النطق، هكذا حاله منذ لحظة ولادته، ثوانٍ قليلة أخذ يبحث فيها عن وصف مشاعره وظل ينتقل بعينيه من خانة لأخرى ليجد ما يبحث عنه.. «أنا جائع أريد الفطار»؛ ليبدأ بها يومه.
ما التوحد غير الناطق؟
الوصف السابق لمشهد عابر من حياة يومية يعيشها المراهق «أحمد أيمن» البالغ من العمر 20 عاما، لا يستطيع التواصل مع أسرته إلا من خلال كتابة ما يريد التعبير عنه، تلك المعاناة لم تكن برغبته، اكتشفتها أسرته في عامه الثاني من عمره.
«وهو صغير كان طفل منظم جدا بالنسبة ليا كان طفل مثالي وفجأة لما كمل السنتين مبقتش بسمع صوته خالص»، تقول الدكتورة إيمان فريد، والدته، في بداية حديثها لـ«» ومن هنا اكتشفت إصابته بـ مرض التوحد «Nonverbal autism» أو التوحد غير الناطق، بحسب تشخيص الطبيب لحالته بكلمة واحدة أربكت حياة والديه وغيّرت كل ما جاء بعدها.
مبكرًا ومنذ نعومة أظافره، بدأت رحلة «أحمد» مع عيادات الأطباء خضع لأساليب مختلفة من العلاج كالعلاج بالتخاطب والموسيقى، حتى لجأ فترة من عمره إلى العقاقير الدوائية لتحسن حالته، ظل والده يبحثان عن مخرج من أزمة عدم التواصل اللفظي بينهم، «أحمد بيسمع كويس بس ميقدرش ينطق أو يتكلم، وده من غير سبب طبي معروف، ومن هنا بدأت أعلمه أسامي الحاجات من خلال الصور»، وهو نظام التواصل والتعبير باستخدام الصور (PECS) فاستجاب لها وبدأ يميز بداخله معان كثيرة حتى المشاعر بات يعرف وصفها من خلال اختيار الصورة المناسبة لها وإن كان لا يتفوه بها، بحسب رواية الأم.
من دولة الإمارات العربية إلى مصر، انتقل «أحمد» مع والديه وإخوته البنات، حيث استقرت الأسرة هنا، بحثًا عن مخرج لتلك الدائرة، يمر الوقت بثقل لا يعلم مرارته إلا هو، تفرغت الأم من أجله، تركت مجال عملها الأصلي في الصيدلة من أجل دراسة أعمق لمرض التوحد، يساندها في كل خطوة زوجها الذي يمتهن الصيدلة هو الآخر، «قررنا نساعد بعض ونفهم أكتر عن التوحد ونستثمر تعبنا في ابننا».
«هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا»، على هذا المبدأ استمر سعي والدي «أحمد» في رحلة اقتسما تفاصيلها سويا، لم يترك أحدهما وسيلة لمساعدة ابنيهما إلا وسارا نحوها، وحتّى عندما ارتبك المسار لم يهتز اليقين، حتى وجدا ضالتيهما في تطبيق إلكتروني مدفوع الأجر يساعد ابنهما الأكبر على التواصل معهم، «لجأنا للاشترك في تطبيق إلكتروني إسمه باب نور ناطق باللغة العربية، يقدر من خلاله يتواصل معانا»، أغمضت الأم عينها وعادت بالزمن إلى الخلف سنوات طوال، تحاول وصف المشهد من بدايته وتعلم أنه يصعب نقله، وراحت تروي مرحلة جديدة في التغلب على التوحد.
أبلكيشن «باب نور» لمرضى التوحد
تطبيق «باب نور» أحد الحلول التقنية المبتكرة على شكل تطبيق للهواتف الذكية، يُعلم أطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والتوحد كيفية تكوين الجمل باستخدام الرموز والصور التي تعبر عن الكلام، ويتضمن خيارا لتحويل الكلمات المكتوبة إلى كلام مسموع عبر مفردات سهلة الفهم، كأول تطبيق من نوعه ناطق باللغة العربية على مستوى الشرق الأوسط والعربي.
اسم على مسمى، هكذا أصبح تطبيق «باب نور» الإلكتروني بالنسبة لـ«أحمد»، بعد اقتناءه على الحاسوب اللوحي «التابلت» الخاص به، كأحد الحلول التقنية للتواصل بيه وبين أسرته، «الأبلكيشن ده كان باب نور فعلا لأحمد وقدر من خلاله يتواصل معانا بشكل أفضل عن الأول، بقى صوته اللي بيتكلم بيه»، كأن يعبر عن رغبته في تناول وجبة طعام معينة من خلال اختيار الوجبات التي يحبها وأدرجتها له والدته على التطبيق الإلكتروني، أو أن يعبر عن رغبته في النوم أو يعكس من خلاله شعورًا عابرا بالضيق أو الفرح وخلافه من المشاعر التي كانت يقيدها الصمت بداخله.
نوبات غضب من الانتظار والروائح النفاذة
حساسية مفرطة من الأصوات العالية أو الروائح النفاذة، تدفع «أحمد» إلى الدخول في نوبة غضب مفاجئة لا يستطيع أحد السيطرة عليها بسهولة، الخروج إلى المولات المزدحمة يبدو للأم كمغامرة كبيرة عليها الاستعداد لها جيدا، وانتظار الأطباء في العيادات تحدٍ كبير عليها اجتيازه دون تعرضه لنوبة غضب يطيح بها بما حوله دون أن يشعر، «ممكن يدخل في نوبة غضب شديدة ويعض في إيده ويتعصب لو شم ريحة نفاذه غريبة أو انتظر وقت طويل»، تقول الأم في رواية معاناة ابنها وكل مرضى التوحد.
«الحياة على لوح تابلت»، ليست المعاناة الوحيدة بالنسبة لـ«أحمد»، وكأن الحياة تختبر صبره وقوة تحمل والديه، حيث واجه رفضا مستمرا من بعض المدارس في مصر سواء المدارس الحكومية العادية أو الخاصة أو حتى العاملة بنظام الدمج، لعدم تأهيل العاملين بها على التعامل مع حالته، فصل جديد من المعاناة يرويها الدكتور أيمن حجازي، والد «أحمد» خلال لقاء «» به في منزل الأسرة، اختزلها في كلمات قليلة «واجهنا صعوبة في دخول أحمد للمدرسة ولجأنا للمراكز الخاصة» إلا أن تلك الخطوة قد لا تقدر عليها أسرة متوسطة الدخل لارتفاع تكاليف الدراسة والتعلم في تلك المراكز ولابد من نهاية لتلك المعاناة، بحسب تعبيره.
40 % من مرضى التوحد هم أشخاص غير ناطقين
ليست حالة «أحمد» هي الأولى من نوعها في مصر أو حتى العالم، بل تعاني الملايين من الأسر من التوحد الصامت، حيث تقدر النسبة العالمية لعام 2022 نحو 40 % من الأشخاص الذين تم تشخيصهم باضطراب طيف التوحد هم أشخاص غير ناطقين، وهذا النوع من التوحد لا يعني أن الشخص لا يسمع وإنما لا يستطيع التواصل عن طريق الكلام ويمكنه الاعتماد على وسائل اخرى بديله للتواصل، ولا يوجد سبب علمي واضح للإصابة بهذا الاضطراب ولا علاج جذري حتى الآن.
وبحسب إحصائيات مراكز السيطرة على الأمراض (CDC) وهي مؤسَّسة أمريكية رائدة في مجال الصحة العامَّة، وتخضع لإشراف وزارة الصحة الأمريكية، فإن اضطراب طيف التوحد (ASD) أكثر انتشارًا بنسبة 1:4 أكثر فى الأولاد منه لدى الفتيات.
في رحلة والدي «أحمد» للتغلب على التوحد، واجها الكثير من محاولات الاستغلال من بعض المتخصصين المدعين باكتشاف علاجا نهائيا للتوحد، «مفيش علاج للتوحد وبنلاقي بعض المتخصصين يستغلوا الأهالي بعلاجات وهمية»، هكذا دلل والد «أحمد» على فخ الاستغلال الذي تقع فيه بعض الأسر، «أسر مصابي التوحد متعلقين في قشاية وسهل يتم استغلالهم لو الأب والأم مش فاهمين»، بحسب تعبيره.
ربما تتمنى أن يتحدث معها، يشكو إليها، يطلعها على بعض ما حدث يستشيرها في أموره، لكن يبدو أن التوحد يحول بين حكايات الأم وابنها سوياً، ولكن بات «باب نور» متنفسا يعبران به سويا إلى مساحة آمنة لتستمر رحلة الحياة والتعلم.