ملامح تنم عن قوة وجلد، تملأ قلوب الناظرين إليها دفئاً، ملأ الشيب رأسها مبكراً، وارتسمت خطوط الزمن العريضة على وجهها، وظلت تقاوم عبئاً ثقيلاً وحدها، غير مكترثة بعواقبه التى تباغت تفكيرها من حين لآخر، محلها بات مقصداً لعشرات الأهالى والمارة بموقف المواصلات المجاور له، يسألون عنها دون غيرها، حتى يهتدوا إليها من أصحاب المقاهى والمحال المتراصة على جانبى شارعها. مبكراً وقبل أن تشق أشعة الشمس ظلام الفجر، يبدأ يوم السيدة «آمال فهمى»، تستيقظ من غفوتها على صدُوح قرآن الفجر من المسجد الملاصق للبيت، تشرع فى الوضوء ثم تنصرف للصلاة، تخرج من بيتها بخطوات متسارعة صوب محل الفول والطعمية، الذى ورثته عن زوجها، متحدية الرجال فى واحدة من المهن ذات الطابع الذكورى.
قبل ست سنوات اختلف إيقاع حياة «آمال»، أو كما تعرف باسم الشهرة بـ«أم فرحة» بريمو الفول والطعمية، بعد إصابة زوجها بجلطة أجبرته على الجلوس بالمنزل، حتى رحل عن عالمنا تاركاً لها طفلين، أكبرهما فى مرحلة الإعدادية والآخر فى الابتدائية حينها، فاتخذت قراراً فردياً بإدارة محل زوجها، حزمت أمتعتها ووضعت مفتاحه فى محفظة بالية، واتجهت صوبه ترفع بابه الصاج بيديها بصوت لفت أنظار الجميع من حولها. «أول يوم نزلت فيه المحل الكل كان بيبصلى بنظرات استغراب لإنى أول ست فى البدرشين تبيع فول وطعمية»، تقول الأم فى بداية حديثها لـ«»، وعن يمينها قدرة الفول وعن يسارها مقلاة تفوح منها سخونة الزيت المغلى، فلم يكن أمامها خيار إلا أن تستكمل مسيرة زوجها الراحل عنها مبكراً تاركاً لها زمام المسئولية. حائرة بين العمال، لا تفهم أصول المهنة جيداً، هكذا كانت الست «آمال» فى أول أيام التجربة، لم يكن التحدى سهلاً: «فى الأول كنت أقف وسط العمال مش فاهمة حاجة، لحد ما اتعلمت أصول المهنة وبقيت أفتح المحل من الفجر، أمسح وأنضف وأقطع البطاطس وأحضر الفول وأعمل كل حاجة بنفسى، عشان أقوم المحل على رجليه من تانى».
صوت محرك ماكينة «الطعمية» يصدر من نافذة المحل، يستيقظ مع ضجيجه النائمون بالمنازل فى الشارع الذى تدب الحياة فيه يومياً مع الخامسة فجراً، زبائنها يأتون إليها بزبائن آخرين «ربنا وقفلى ناس جدعان كانوا بيشجعونى ويشتروا منى، والزبون جر الزبون، والبيع فى المحل مش ملاحقين عليه».
بخلاف الشغل، تحاول «آمال» أداء وظيفتها كأم وأب تجاه طفليها «فرحة وبلال»، ولا تقتصر مهامها على بيت نظيف ولقمة هنية، بل تحرص على أن تكون سنداً وعموداً قائماً فى البيت، لا يميل وإن مالت الظروف. تستيقظ «آمال» فجراً ترتب البيت وتغادره إلى المحل، ولا تعود إليه إلا وقد أوشكت الشمس على الرحيل إيذاناً بالغروب، مضت السنون وحقق أبناؤها نجاحاً دراسياً، يُنسيها آلام المفاصل التى تداهم جسدها من حين لآخر: «المهنة متعبة بس فرحتى بولادى ونجاحهم بالدنيا».
تستجمع «آمال» شجاعتها لتعبر عن أمانيها البسيطة فى الدنيا: «نفسى فى القوة والصحة من عند ربنا لحد ما أطمن على ولادى وأشوف بنتى معيدة فى الجامعة، وتتجوز ابن الحلال وأشوف ابنى فى منصب محترم وأطمن عليهم».