| على رأسها «أنبوبة».. وفي يدها صورة ابنها المخطوف: «كان عنده وحمة في رجله»

باب خشبى سقط طلاؤه ولم يعد لألواحه سوى لون كالح، تخرج من ورائه فى السابعة من صباح كل يوم سيدة أربعينية تشى ملامحها بما تخفيه من حزن عميق. يبدو شكلها أكبر من عمرها بسنوات، منزل لا يسع إلا غرفة واحدة، يخلو من الأثاث. اعتاد أصحاب المحال المجاورة هيئتها وهى تحمل «أنبوبة» على ظهرها، تتوجه بها صوب مستودع الأنابيب القريب من منزلها لملئها، صارت مورد رزقها الوحيد ورفيقة دربها رغم مشقة حملها على ظهرها العليل.

بوجه رسم خطوطه الزمن، وبلهجة «فلاحى» كانت تتحدث الأم «إيمان عمر» لـ«» من أمام منزلها الكائن بمنطقة البدرشين بمحافظة الجيزة، وفى يدها صورة تلازمها أينما ذهبت لطفلها الذى فقدته، تسرد سنوات من المعاناة بنبرة تعبّر عن حال سيدة حرمها القدر من الاستمتاع بشبابها، حملت على عاتقها مسئولية ثلاثة أطفال تفوق طاقتها.

فى الرابع عشر من شهر مارس عام 2009، عقارب الساعة أشارت إلى الحادية عشرة صباحاً، ضوضاء ملأت أركان المستشفى، أحاديث جانبية بين المرضى لا يتوقف من ضجيجها بكاء الرضيع «مصطفى أحمد عبداللطيف»، جلست الأم «إيمان» فى انتظار دورها فى عيادة أمراض النساء بمستشفى قصر العينى تحتضن رضيعها وتداعبه حتى يهدأ، جاءت لحظة دخولها فاقترحت عليها إحدى الممرضات أن تحمل عنها رضيعها إلى حين انتهاء كشفها: «فيه ممرضة قالت لى هاتى ابنك خليه معايا لحد ما تخلصى كشف، خرجت مالقتهاش ولا لقيت ابنى». انتابتها حالة من الصراخ والبكاء الذى ملأ أركان المستشفى حتى اكتشفت بعد ذلك أنها ليست ممرضة. لم يتحمل الأب خسارة صغيره، أُصيب بجلطة وفارق عالمنا بعد الواقعة بعامين فقط، تاركاً لها مسئولية ثلاثة أبناء صغار، لا وظيفة لها ولا شهادة عليا تمكّنها من العمل، محاولات بحثها عن صغيرها تأكل من جدار روحها كل ساعة: «عملت بلاغ فى القسم وقعدت 3 سنين أدوّر عليه». تذهب تارة إلى المشرحة للتعرف على جثث أطفال، وتارة إلى أقسام الشرطة للبحث عنه بين المشردين دون جدوى.

ثلاث سنوات مرت فى بحث الأم عن رضيعها، اتخذت خلالها قراراً بالعمل لملء بطون أطفالها، لم تجد مهنة سوى ملء أسطوانات البوتاجاز الصغيرة لسيدات منطقة البدرشين التى تسكنها لتكسب قوت يومها.

مبكراً، وقبل أن يستيقظ صغارها، تغادر «إيمان»، أو كما يلقبها أهالى المنطقة بـ«أم محمد»، إلى مستودع الأنابيب، «تلفح» الأنبوبة على ظهرها لتحجز دورها فى طابور ممتد على مرمى البصر، انحراف يكاد لا يُرى فى طريقة السير يفضح الهدوء المُدَّعى للسيدة التى أحكمت قبضتها على أسطوانة الغاز، وما إن تنجح فى الوصول لهدفها حتى تعود إلى منزلها تفترش الأرض عند مدخل البيت وبجوارها الأنبوبة المملوءة بالغاز، تتوافد عليها سيدات الحارة لملء البوتاجازات الصغيرة أو «الباجور» لاستخدامها فى أغراض الطهى والخبيز.

مرت السنون سريعاً وتزوج أبناؤها، واستمرت هى على هيئتها المعهودة، اصفرّت صورة رضيعها المفقود من بصمات أصابعها، تضعها فى محفظة بالية تكاد تخلو من النقود إلا جنيهات معدودة، كلما مر عليها أحد سألته «ماشُفتش ابنى؟ كان فيه وحمة فى رجله»، لم يعد فى العمر أكثر من الذى مر، تريد أن تهدأ قليلاً «نفسى فى كشك أبيع منه وأجيب لقمتى عشان تعبت من شيل الأنابيب».