مستعينا بالصلاة على النبي، عاقدا العزم وخالعا معظم ملابسه، خوفا عليها من ماء الترع، التي هو على وشك النزول فيها، ليقوم بعمله اليومي، ملخصا مشهد عبقري قامت به الفنانة الكبيرة شادية في فيلم «شيء من الخوف»، حيث ذهبت بشجاعتها المعهودة، متحدية «عتريس»، وفتحت «فؤادة»، «الهويس»، للفلاحين، فانتشر الماء وتهللت الوجوه بالسعادة، تلك هي حياة قطب السيد خليفة، البالغ من العمر 58 عاما، يده تنبض بالحياة، وتدخل الماء للفلاحين، فهو وسيلة الاتصال الوحيدة بينهم وبين وزارة الري.
بطولات عم قطب، اليومية المتمثلة في إيصال الماء لمن يحتاجه من الفلاحين، ليست فردية، وإنما عمل جماعي أبطاله أفراد أسرته، زوجته وبناته، فهن الوقود خلف العمل، الذي يعد شغفه الحقيقي وهمه الأول، ووصل به الحال إلى ترك إحدى بناته يوم فرحها، كي يحاول تسليك إحدى الترع التي يلف عليها يوميا، ليدخل الماء إلى الفلاح، ويشعر بالأمان بري زرعه، ويحافظ الرجل على عمله، حتى تشعر بناته بالاستقرار في حياتهم، فمن أجلهن يضحي بحياته، ويبذل مجهود مضني في عمله.
منذ الفجر، يستيقظ عم قطب، يتناول فطوره ويرتشف كوبا من الشاي، ثم يصلي ركعتي الصبح، ويتجه إلى عمله مصطحبا عجلته التي لا تفارقه، يركبها ويسير بها نحو 15 كيلومتر يوميا، ذهابا وإيابا، ويلف على الترع في أبتوك بمركز شبراخيت بالبحيرة، فهو خفير المياه وحارسها التابع عمله لوزارة الري، 3 ترع بتفريعاتها يتحكم فيها عم قطب: «مش ببدأ شغل عشوائي، لازم الأول أشوف المناسيب، وإيه مسدود ومحتاج تنضيف، وبعدين بسلك، والخطوة الأخيرة أطلق أو أسد المية عن الفلاح».
عمل قطب لا يقتصر على فتح الهويس، ربما فتح الهويس الخطوة الأهم، كما فعلت «فؤادة» وروت أراض الفلاحين، لكن الوصول إلى تلك المرحلة، بمثابة حمل ثقيل على عاتق عم قطب، فهو يوميا يخلع ملابسه سواء كان التوقيت صيفا أو شتاء، ليسلك الترع من المخلفات التي تتراكم فيها، سواء بقايا شجر وخشب زرع مكسور، أو قمامة بمختلف أنوعها، ينزل بجسده الهزيل إلى الماء، دون وسائل حماية تذكر، بيدين مجردتين يخرج ما يسد مجرى الماء من الترع أو تفريعاتها، ليكون الطريق مفتوحا أمام الماء بعد فتح «الهويس».
عمل يبدو بسيطا، لكن تكمن فيه خطورة كبيرة، ففي إحدى المرات أصيبت يد عم قطب، جراء وقوعه في الماء على كوب مكسور، فتهتك شريان رئيسي في يديه، أفقده الكثير من الدماء، وتضرر أحد أصابعه، واضطر للذهاب للمستشفى، كما تضررت عينيه، وأصيب بفصل في الشبكية، نتيجة تنظيف الترع، وسقوطه على عينيه، وحاول مرارا أن يحصل على علاج أو أدوية على نفقة الدولة، لكنه فشل وصرف على علاجه في النهاية.
رغم قضاء 35 عاما، في أداء وظيفته، إلا أن عم قطب، لا يتقاضى حاليا أكثر من 2000 جنيها، بحسب زوجته آمال محمود عثمان، التي وقفت جانبه ودعمته، فكانت تساعد في تنظيف المنازل، وغيرها من المهن البسيطة، كي تستطيع معه، تجهيز 4 عرائس هن بالفعل زوجات الآن، وما تزال تتراكم عليهم الأقساط والقروض جراء تجهيز الفتيات.
تقول زوجة عم قطب: «الحمل تقيل علينا خالص، كمبيالات وجواز البنات، لحد دلوقتي بنسد في الفلوس اللي علينا، الأول علمنا البنات، وده مكانش بالساهل خالص، وبعد كده جوازهم، وهو بيقوم بدري الناس بترن عليه 2 الفجر، وساعات بيقعد طول النهار بره وبيشتغل بليل كمان، الفلاح بيعتمد عليه أنه لو محتاج ماية يسلك أو يفتح ماية، مبيقعدش دقيقة حتى في العيد بينزل، ويوم فرح بنتي نزل وبقيت لوحدي محرجة، الناس الغريبة واقفة وهو مع الكراكة ومش فاضيلي».
تلتقف نادية قطب، البالغة من العمر 29 عاما، إحدى بنات عم قطب، الحديث من والدتها، التي يجمعهما رغم ضيق الحال، الفخر بالأب، الذي يعشقون عمله، ويذكرهم دوما به مشهد شادية في فيلم «شيء من الخوف»: «أبويا هو أهم واحد في شغلته، هو همزة الوصل بين وزارة الري والفلاح، هو حياتهم عشان الماية حياتهم، عايزين ماية، هتيجي أمتى، اطلقلنا ماية، أو سد الماية، أبويا بيتعب لازم يسلك الزبالة، عشان يفتح الهويس، واهب نفسه للشغل، مبياخدش إجازات خالص، النشاط عنده اهم حاجة، الفنانة شادية اتكرمت في الفيلم على المشهد ده، إنما أنا والدي بيقوم بيه كل يوم، نفسي يتكرم أو يتقدر وحد يحس بمجهوده، نفسي تعبه مايروحش هدر، الفلاحين ميعرفوش مهندس ولا غيره، الفلاحين حياتهم أبويا».
رغم المجهود الجبار الذي يبذله، يتعرض عم قطب، للإهانة من الفلاحين كل يوم، بسبب رغبتهم المستمرة في المياه، إذ يقول: «سد أو اطلاقها مش بمزاجي ولا بإيدي، لازم تكون بأوامر وتوقيتات ودور، وكل واحد ياخد دوره، لكن تليفوني مش بيبطل رن، كل الفلاحين عايزين الماية طول الوقت، ومع بعض وده مستحيل، هتجازى، ومستحمل كل حاجة غصب عني، أستحمل الوزارة، وأستحمل الفلاح».