جدران ورشة صغيرة بهت لون دهانها من أثر الزمن، في خلفية المشهد تجد صوت الراديو على محطة إذاعة القرآن الكريم تبث بصوتها الطمأنينة في قلوب العاملين بالورشة، يصاحب هذا الصوت ضوضاء مكينة تخريم ودقات شاكوش عم «محمد» على أطباق النحاس في ضربات متتالية وقوية للتأثير عليه بشكل أفضل.
يد خشنة من أثر الزمن ومشقة المهنة، ابتسامة رضا ترتسم على شفاتيه، يجلس الرجل الخمسيني محمد عبدالمجيد، وسط ورشته التي يقضي بها ساعات النهار كلها في النقش على النحاس، يحكم قبضة يده على «الأزميل» الصغير، يحكم بقدمه الأواني النحاسية كي يتمكن من التحكم بها بسهولة.
عم محمد يحترف النقش على النحاس
ورشة عم «محمد» تتوسط شوارع قصر الشوق، تبعد خطوات قليلة عن شارع الجمالية، مكث بها أكثر من 20 سنة بعد أن ورث المهنة عن والده: «كل حاجة اتغيرت عن زمان النقش على النحاس دلوقتي بينقرض بسبب الخامة الجديدة اللي طالعة في السوق»، بحسب حديث عم «محمد» لـ«»، معبراً عن الحزن الذي أصاب هذه المهنة بعد ابتعاد الناس عن مزاولتها.
بنبرة رضا استكمل عم «محمد» حديثه عن صناعة النحاس: «زمان كانت الأدوات النحاسية أساسية في المنازل، كان في جهاز العروسة الطشت والإبريق والحلل النحاس، لكن دلوقتي الاهتمام بقى بالموضة الجديدة»، مع زيادة أسعر الخامة التي يشتريها بالجملة من بيت القاضي أصبح هناك تفاوت كبير في قلة الإنتاج وزيادة الأسعار، فكان كيلو النحاس يتراوح بين 7 إلى 10 جنيهات أما اليوم فصار أكثر من 300 جنيه للكيلو الواحد.
منتجات النحاس من طشت وأواني إلى تحف
كهل المهنة حمله الرجل الخمسيني على كاهله بعد ما ورثها وهو في المرحلة الإعدادية، مؤكدا أن استخدام النحاس الآن أصبح مقتصراً على قطع الديكور والزينة: «معظم الشغل اللي يبيجيلي أطباق مزخرفة وأنتيكات للديكور، أدوات زمان ديه اختفت».
وفي أحد أطراف الورشة، يجلس «طه» ليساعد زميله في المهنة بحفر الثقوب على النحاس لتكون جاهزة للطلاء بعد أن تمر بكذا مرحلة، حسبما روى لـ«»: «في أسطوات كتير بيشتغلوا على القطعة الواحدة من أول الدقاق لحد الراجل اللي بيدهن علشان نخرج تحفة»، فيبدأ عمله بعد أن يحدد له الدقاق شكل الرسمة المراد ثقبها ليستخدم مكينته العتيقة في ذلك.
10 سنوات قضاها «الأسطى طه» داخل ورشة النحاس، بعد أن أحبها وشعر بوجوده وهو يصمم وينفذ ويشكل تحفته الفنية بطريقته الخاصة، ويستغرق تنفيذ القطعة الواحدة من 3 إلى 5 ساعات، ويختلف ذلك على حسب طبيعة التحفة وحجمها والتصميم الخاص بها.
ويتمنى عم «محمد» وصاحبه في الرحلة «الأسطى طه»، أن تطور المهنة في الفترة القادمة حتى تجد لها محبين يمنعوها من الاندثار، كما يأملا أن تهتم الدولة بالمدارس الصناعية لتخريج دفعات من الشباب الصغير تحب المهنة: «شغلانة عايزة توارث وممارسة علشان تكمل».