ورد وجواب على بوابة مستشفى «عزل»: أمى.. أنا فى انتظارك
لملمت أغراض أمها ملابسها، مشط شعرها، مناديلها المُعطرة، وأيضاً ملفها الطبى، وضعتها بعناية فى حقيبة سفر، بينما شردت بذهنها فى كلمات الطبيب «أمك لازم تدخل حجر صحى»، ما أقسى الكلمات، خاصة إن سبقتها تجربة أليمة، فلم يمر على وفاة خالتها سوى 6 أشهر إثر تداعيات «كورونا».. هل ستتجدد الأحزان؟ وهل ستفقد هذه المرة أعز الناس لديها؟
طردت «مريم» الأفكار السلبية من رأسها، وأخذت تهدّئ من روع أمها الرافضة مغادرة بيتها لأى سبب.. «خلاص هتسيبونى أموت لوحدى»، تباغتها الأم مستنكرة استجابتها لأوامر الطبيب، وتركها وحدها لتلقى مصيرها، فتمسك بكفى أمها الباردين، وتنظر فى عينيها «لا يمكن يا أمى.. أنا جنبك».
دخلت «نجلاء» حجر «قها» الصحى.. فقررت ابنتها دعمها نفسياً
مريم عبدالرحمن، 28 عاماً، من مدينة «طوخ» بمحافظة القليوبية، انفصلت عن زوجها، ولديها «محمد»، 4 سنوات، عانت من أعراض «كورونا» فى بداية يونيو الماضى لمدة 4 أيام فقط، بعدها ظهرت الأعراض على أمها «نجلاء عبدالفتاح»، كحة وضيق فى الصدر أصابتهم بالذعر، مر أسبوع على أمها وهى تتلقى بروتوكول العلاج فى البيت دون تحسن، طلب الطبيب تحاليل وأشعة، ونصحهم بالتوجّه للحجر الصحى، بكاء وانهيار ورفض من قِبل الأم وابنتيها، فهى المسئولة عنهما منذ وفاة الوالد قبل 15 عاماً، ولا يمكن الفراق.
«ده امتحان يا أمى ولازم نرضى»، قالتها «مريم» لأمها، وتوجهتا إلى حجر «طوخ» فى 15 يونيو الماضى، ووقتها كانت حالتها الصحية غير مستقرة ونسبة الأكسجين 86%، دخلت الأم غرفتها وبقيت ابنتها فى الخارج، كانت تتردد عليها ثلاث مرات يومياً، تبدأ فى السادسة صباحاً لحمل وجبة الإفطار لها، ثم تعاود وقت الغداء والعشاء، تعد لها ما تشتهى من الأكل الصحى، تقطع لها حبات الفاكهة ولا تنسى «اللبن الرايب» الذى تعشقه.
فى صباح 25 يونيو، صدر قرار وزارى بنقلها إلى الحجر الصحى بمستشفى «قها»، بعد أن انخفضت نسبة الأكسجين إلى 70%، الأمر الذى نزل كالصاعقة على «مريم» وأمها، ففى هذا المستشفى فاضت روح الخالة، ولن يبقى بوسعهما التواصل بأى شكل كان، جاءت عربة الإسعاف ورفضت الأم، بينما أعادت «مريم» التفكير فى الأمر.. «لو توفيت فى حضنى هاسامح نفسى؟»، حسمت قرارها وقالت لأمها «سيدنا يونس خرج من بطن الحوت بالتسبيح.. اذكرى الله وكونى قوية وهتخرجى بالسلامة».
ودّعت «مريم» أمها على بوابة المستشفى وقلبها يعتصر، فلن تراها وتتواصل معها قبل الشفاء التام، لكنها كانت تتردد يومياً عليها، تقف بالخارج حاملة ما يطلبه الأطباء من مستلزمات أو نفقات لتحاليل وأشعة، ولسان حالها: «هل ده بس دورى.. أبداً مش كفاية».
تعمل «مريم» فى إعداد بقات الزهور الخاصة بحفلات الزفاف، ورأت أن أمها هى الأولى بزهورها، فكانت تحمل لها يومياً «بوكيه ورد» وجواب، تحكى لها أحوال الأسرة وتدعمها نفسياً فى محنتها، على مدار شهرين تقوم الابنة الوفية بنفس الفعل دون ملل، حتى عرفها الطاقم الطبى بالمستشفى. «مصحف وسبحة ونظارة» أرسلتها «مريم» أيضاً لوالدتها، وكتبت فى خطابها «لو أنا مش عارفة أبقى أنيستك.. الله والقرآن أنيسك فى شدّتك»، وعرفت بعدها أنها قرأت 16 جزءاً بعينيها، فهى على جهاز تدفّق أكسجين، ولم تعد تقوى على الكلام.
«بنتك جابت إيه النهارده.. إيه الورد القمر ده»، هكذا اعتادت الممرضات سؤال «نجلاء» يومياً، فبدأت تتحسّن بشكل ملحوظ، وكان للفتات ابنتها الرقيقة مفعول السحر عليها، وفى أول أيام عيد الأضحى، ذهبت لأمها حاملة البالونات دون خجل، أعطتها للممرض مع الورد والجواب، لتحتفل مع أمها كعادتهما، ولم تتصور مدى فرحة أمها بها، فطلبت من الممرض تعليقها فى السرير لتراها دوماً، وتحسّنت صحتها إلى حد نقلها من جهاز تدفّق الأكسجين لآخر عادى.
خطّت الأم جواباً لابنتها، تحدّثت لها وطلبت «جلابية جديدة»، بعد أن خلعت روب المستشفى، فطارت «مريم» فرحاً، اشترت لها بدلاً من الواحدة ثلاثة، وملاءات جديدة للسرير، وعطرها المفضل، كما كانت تجمع صوراً للحفيد ولأفراد الأسرة وتهديها لها، لتشعر أنها بينهم، ولم تكتفِ بذلك، حرصت على تقديم دروس توعية لأهالى المرضى على بوابة المستشفى، كلما وجدت واحدة تبكى هدّأتها وحمّستها لدعم ذويها نفسياً كما تفعل، غير مبالية باستهزاء البعض بأفكارها.
شكر طاقم المستشفى «مريم» على دورها المؤثر، أكدوا لها أنهم منذ انتشار «كورونا» مر عليهم ناس من شرائح اجتماعية وثقافية مختلفة، لكن لم يصادفوا ذلك الاهتمام ومحاولات لمس القلب وتغذية المشاعر، كما فعلت «مريم» مع أمها.
«لو شِلت الأكسجين لمدة ساعتين هتخرجى بكرة»، قالها الطبيب، ولم يتصور أن «نجلاء» ستتخلى عنه لمدة 3 ساعات، ليُقرر خروجها فى اليوم التالى، وعودتها لبيتها وحضن ابنتها المخلصة.