ساحل مدينة رشيد
بمجرد أن تستقر السيارة على ساحل مدينة رشيد، تخترق النوافذ رائحة البحر وأصوات الصيادين، التي اختلطت بأصوات صافرات السفن العائدة إلى الشاطئ محملة بالرزق، ونقاشات جانبية بين المشترين والبائعين المتراصين أمام حاويات السمك الطازج، الكل مشغول في عمله، يسابقون أشعة الشمس، لكسب قوتهم قبل أن تغرب.
المشهد السابق يصف بإيجاز تام حياة أهل مدينة رشيد، المطلة على مياه نهر النيل والبحر الأبيض المتوسط، تلك المدينة التي تتبع محافظة البحيرة، ويعمل أهلها في الصيد وغزل الشباك، كمهنة أولى يتوارثها الرجال عن أبائهم وأجدادهم.
من الفجر للمغرب على المركب
على متن أحد المراكب التي رست على شاطئ البحر في مدينة رشيد، استقرت عدسة «»، برفقة ثمانية صيادين من أعمار متقاربة، جميعهم بدا الشقاء على ملامحهم، وحفرت الشباك خطوطا في كفوفهم، هموا بالرحيل، بعد أن أعدوا عدتهم كاملة، ليقضوا ساعات النهار كلها في عرض البحر، بحثا عن الرزق، رغم ذروة برودة الجو في شهر طوبة.
ثمة حياة كاملة يقضيها الصيادون الثمانية على متن المركب، ملابس الصيد العازلة للماء معلقة على مسمار ثبته أحدهم في جدار المركب، ليحتموا بها حين يشتد الموج وتزداد وطأة البرودة، براد الشاي والسخان بجوار الأكواب التي تشهد على «جلسة الاصطباحة» و«جلسة العصاري»، يجدون فيها ملاذهم للونس، وكمية من الطعام تكفيهم إلى حين العودة، «بنقضي نهارنا كله على المركب، قوت يومنا كله من أكل وشرب بناخده معانا، يكفينا لحد ما نرجع»، يقول الصياد جمال الصاوي، في بداية حديثه لـ«» عن حياة الصياد في عرض البحر.
رزق البحر يوم بيومه
الصياد الخمسيني، امتهن مهنة الصيد منذ أربعين عاما، ورثها عن أبيه، منذ أن كان مراهقا وشاب عليها رغم صعوبتها، وبحسب روايته، يتفاوت الرزق كل يوم عن الآخر، فقد يعود في نهاية أحد الأيام بـ150 جنيها، وقد يعود بـ100 واحدة فقط، «يوميتنا حسب ما يرزقنا ربنا، أيام بنرجع بالشباك مليانة سمك، وأوقات السمك بيكون قليل»، يقول في وصف الحالة المادية له ولمئات الصيادين مثله.
بين السماء والماء في أحضان الموج، يعيش الصيادون أغلب ساعات يومهم، مركبهم هو بيتهم الثاني، يواجهون معا مخاطر الموج، وبحسب رواية الصياد محمد، أحد الصيادين على سطح المركب: «أصعب حاجة أيام الشتا، لما يبقى في ريح جامد، بنلبس جلد عشان الرش بتاع البحر عشان منتبلوش، بس خلاص دي حياتنا واتعودنا عليها».
في آخر المركب، خزانات وقود الماتور، والدفة، وحبال متينة، ولا يغفل الصيادون اصطحاب بعض الإسعافات الأولية، يقتسمون أوقات الراحة بينهم بالتساوي، وبحسب رواية «الصاوي»: «طول الرحلة بنقسم ساعات الراحة ما بينا، عشان نقدر نكمل رحلتنا، اتعودنا على قلة النوم والتعب، والمهم نكسب بالحلال».
تجديد الشباك القديمة
في أقصى طرف المركب، اختلى الصياد «جابر» بنفسه بعيدا عن رفاقه، غارقا بين خيوط الشباك المتهالكة يحاول فكها والاستفادة من الأجزاء السليمة منها، ليصنع منها شباكا جديدة تعينهم على زيادة الرزق، كمهنة أخرى اشتهرت بها رشيد، وهي صناعة شباك الصيد.
تتمزق شباك الصيد باستمرار، ويرجع ذلك إلى مهاجمة الأسماك الكبيرة لها، أو نتيجة اصطدامها بالصخور، يقول الصياد جابر، في حديثه لـ«»، أثناء انشغاله بفك إحدى الشباك القديمة للاستفادة من الخيوط السليمة بها: «صيانة شباك الصيد وإعادة تدويرها من جديد حاجة متعبة جدا ومحتاجة صبر، لكن ضروري نجددها أول بأول، عشان تعرف تصيد السمك»، مهنة تعلمها من والده، واحترفها إلى جانب الصيد.
يحيك الصياد الخمسيني، الخيوط الجديدة مع خيوط الشباك الأصلية المتهالكة، في محاولة منه لترقيع التمزق الموجود فيها، يجلس على طرف المركب منحني الظهر ساعات طويلة، أثناء عملية ترميم الشباك: «مهنتنا صعبة بس ربنا مقدر لكل واحد رزقه، ولازم نرضى عشان نعرف نعيش»، كلمات قالها بابتسامة رضا، ارتسمت على وجهه سارحا في حاله.
في أحد أيام شهر طوبة المعروف ببرودته الشديدة، وموج البحر العالي، قضينا يوم على مركب صيد في مدينة رشيد، طلعنا مع الصيادين على المرسى من أول النهار، وسمعنا منهم حكايات مختلفة، شوفنا الشباك القديمة تغزل من جديد، ورجعنا معهم على الشط ومعنا السمك.