معركة البكيرية
وفي الدولة السعودية الثالثة، حمل البيرق عبداللطيف بن حسين المعشوق، الذي شهد كل معارك التوحيد، فلم يتخلف عن معركة واحدة حتى كانت معركة البكيرية فاستشهد فيها، وكلف ابنه منصور بحمل الراية في المعركة نفسها، فحملها ببسالة كما فعل والده، ولم يلبث أن استشهد في المعركة نفسها مدافعا عن البيرق حتى الرمق الأخير، ودفن الاثنان معا في أرض البكيرية.
تحقق الحلم
ثم انتقلت الراية إلى أسرة آل مطرف، فحملها الجد عبدالرحمن، ثم ابنه منصور، ثم حفيده مطرف، وهناك طبعًا عشرات الأبطال الأفذاذ الذين حملوا الرايات متقدمين كتائب التوحيد، فلكل جيش من الجيوش علَم يحمله شخص من بينهم، وهو العلَم الوطني نفسه الذي يحمله الحاكم من آل سعود، الذي ينطلق من عاصمة الدولة.
وكان لكل قبيلة من القبائل راية خاصة بها وعزوة خاصة بها أيضًا، فلما انخرطت هذه القبائل كلها في هذا المشروع الوحدوي العظيم، ائتلف شملهم تحت راية التوحيد، واستبدلوا العزى المختلفة بعزوة «إخوان من طاع الله»، حتى تحقق الحلم وأصبح حقيقة.
جذور التأسيس
كان حلم بناء دولة في جزيرة العرب يراود بعض العقلاء، وذلك لما اعترى هذه المنطقة الجغرافية من الإهمال الذي استمر عدة قرون، ولسيطرة أعراق أخرى على بعض أجزاء الأراضي العربية، وعلى شعوبها ومقدراتها.
وعند دراسة ظاهرة مدينة الدرعية التي أسسها مانع المريدي في منتصف القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، وما نتج بعد ذلك، يتبين لنا من معطيات عدة أنه أسس الدرعية لتكون المدينة الدولة القابلة للتوسع مع الأيام، ونستشف من مواقف أمراء الدرعية أن هناك دستورًا عائليًا للحكم ركز على فكرة الدولة، وعلى العنصر العربي، وهذا ما جعل هذه المدينة لا تقوم على عصبية قبلية، وإنما على أساس دولة عربية.
طرق تجارية
حين نتأمل في الموقع الجغرافي لمدينة الدرعية يتضح لنا أنه موقع إستراتيجي لعاصمة دولة كبرى، فمن أبرز المقومات لذلك وقوعها على واحد من أهم الأودية في نجد وهو «وادي حنيفة»، عدا أنها تقع على أحد أهم الطرق التجارية القديمة، ذلك الطريق الذي تعد الدرعية في قلبه، والذي يأتي من جنوب شبه الجزيرة العربية مرورًا بنجران ثم يتجه شمالاً إلى اليمامة ثم الدرعية، حيث يتجه إلى الشمال نحو دومة الجندل وإلى الرق نحو العراق وإلى الغرب نحو الحجاز.
ويعد هذا الطريق هو طريق الحاج القادم من فارس والعراق ووسط آسيا، الذين كانوا يواصلون سيرهم عبر الدرعية إلى مكة المكرمة، وازدادت أهمية هذا الطريق بعد تأسيس الدرعية على يد مانع المريدي الذي سعى هو وأبناؤه وحفدته إلى تأمينه وخدمته.
وبتأسيس الإمام محمد بن سعود للدولة السعودية الأولى أصبح هذا الطريق من أبرز الطرق التي تمر بها قوافل التجارة والحج، نتيجة لسياسة الإمام محمد بن سعود بتأمين هذا الطريق والارتباط بعلاقات مع القبائل التي يمر من خلال مناطقها، والاتفاق معها على ضبط الأمن وتقديم الخدمة اللازمة للمستفيدين منه.
دولة عربية خالصة
كان السائد في بلدات المنطقة أن تكون البلدة في أول تأسيسها خاصة بأسرة واحدة، وبعد مرور عقود من السنين تسمح هذه الأسرة لأفراد أو عوائل محددة بالانتقال إلى بلدتهم بناءً على اتفاق بينهم، وهذا ما لا نلاحظه في الدرعية، فمنذ نشأتها وهي موئل للعرب الآخرين الذين هاجروا إليها من أنحاء الجزيرة العربية وخارجها، فأقام فيها أو زارها كثيرون من مناطق مختلفة من جزيرة العرب.
والمتابع لدولة المدينة «الدرعية» يلاحظ أنها تتوسع وتضيق بحسب الاستقرار السياسي فيها، وهذه الأمور والدروس والتجارب المتراكمة الطويلة فهمها الإمام محمد بن سعود، الذي -بفضل الله ثم بفضل عبقريته- انتقلت دولة المدينة في «الدرعية» إلى مرحلة الدولة، التي تعارف المؤرخون على تسميتها بـ«الدولة السعودية الأولى»، وكانت الدولة السعودية منذ تأسيسها حتى يومنا هذا دولة
عربية خالصة بحكامها وشعبها.