أزمة قيادة في إسرائيل بعد رفض نتنياهو لإنذار غانتس..
2024 May,19
لم ينتظر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو كثيراً حتى يرد على خطاب الوزير غانتس، ليتبعه عددٌ من وزرائه، الذين هاجموا الأخير، معلنين بذلك بدء معركة جديدة على وعي الإسرائيليين، العالقين بين فكرتين؛ الأولى تدعو لوقف الحرب فوراً واستعادة المخطوفين والتعاون مع الصفقة الأمريكية الكبرى، مقابل فكرة المضي بها حتى التغلّب على “حماس” وتجنيب إسرائيل هزيمة خطيرة.
بعد أيام من خصومة معلنة بين نتنياهو ووزير الأمن غالانت، الذي حذّر بصوته وصورته من حكمٍ عسكري ومدني إسرائيلي في القطاع، ومن خلط حسابات الدولة بمصالح سياسية فئوية، جاء خطاب غانتس، الذي أعلن، في مؤتمر صحفي، أمس، عن إنذار أو تهديد بمغادرة الحكومة، في حال عدم استجابة نتنياهو لطلبه بطرح خطة مكوّنة من ست نقاط: استعادة المخطوفين، إسقاط “حماس” ونزع سلاح غزة، تحديد بديل سلطوي في القطاع: أمريكي وأوروبي وعربي، استعادة النازحين في الشمال حتى الفاتح من سبتمبر/أيلول، ودفع التطبيع.
وعلّلَ خروجه بهذا البيان بالقول إن “حسابات سياسية فئوية قد تسلّلت لقدس الأقداس: أمن إسرائيل”، وهذا سهم موجه نحو نتنياهو، المتهم أصلاً من قبل أوساط إسرائيلية واسعة بخلط الحسابات خدمة لمصالحه الشخصية.
توقيت الإنذار
لا شك أن تزايد انتقادات مراقبين إسرائيليين لغانتس، وتردّي شعبيته وحزبه في الاستطلاعات دفعه لهذا التحذير، الذي جاء للتمهيد والتبرير عملياً لخروجه من الحكومة، فهو يدرك أن نتنياهو لن يستجيب لأي نقطة من نقاطه الست.
وقد تعالت الأصواتُ الناقدة لغانتس في أوساط إسرائيلية معارضة لنتنياهو، لأنه دأب على التهديد الفارغ منذ شهور دون تطبيق، رغم أن الحرب دخلت الشهر الثامن، دون أن تبدو نتائج في الأفق، وكلفتها باهظة (قتلى وجرحى، وموت للمحتجزين في غزة، واستمرار نزيف النازحين في الشمال والجنوب.. الخ)، وهذا ما يشير له رسم كاريكاتير ساخر في “يديعوت أحرونوت”، اليوم، يبدو فيه غانتس يقف مقابل نتنياهو، بربطة حمراء، وهو يرسم خطاً أحمر، ومن خلفه خطوط حمراء كثيرة.
إضافة للضغوط الداخلية، على ما يبدو، لعبت الضغوط الخارجية دوراً في دفع غانتس لهذا الخروج شبه المؤكّد المتدرّج من الحكومة، فمن غير المعقول أن يبادر لهذا البيان دون استشارة مع الإدارة الأمريكية، التي تراهن عليه لاستبدال نتنياهو، ودون تنسيق مع وزير الأمن غالانت الذي يشاطره الرؤية، وهذا علاوة على ضغوط تأتي من العالم، ومن دول صديقة لإسرائيل، التي باتت تبدو بعيون البشرية “بلطجياً وسكّيراً فقدت السيطرة عليه”، كما يقول الجنرال الإسرائيلي في الاحتياط يسرائيل زيف، وهذا كله يجري في ظل تداول “محكمة العدل الدولية” في طلبات جديدة لإجبارها على وقف الحرب على غزة، وفي ظل سعي أمريكي محموم لإتمام صفقة سياسية كبرى في المنطقة، توظف في حملة بايدن الانتخابية، ويقف نتنياهو اليوم حائلاً دونها. رغم أن غانتس أيضاً غير خال من خطاب شعبوي يزاود فيه من جهة اليمين على نتنياهو، لا يريد “حماس” ولا عباس، ويرفض فكرة حل الدولتين، لكنه متحمّس للرؤية الأمريكية الداعية لوقف الحرب الآن، والعودة لاحقاً للإجهاز على “حماس”، والتقدم نحو صفقة سياسية تشمل تطبيعاً مع السعودية، ودخولاً في مسار مفاوضات مفتوحة إلى ما شاء الله حول “الدولتين”.
غانتس يرى بالرؤية الأمريكية سلّماً مهماً يتيح نزول إسرائيل عن شجرة الحرب العالية، وهذا ما يفسّر قوله، ضمن إنذاره لنتنياهو: “علينا الاختيار بين انتصار وبين مصيبة”. لولا الحسابات السياسية الحزبية والشخصية لأقدم غانتس، اليوم الأحد، على استقالته، بعدما سارع نتنياهو ورفض تحذيره وخطته بكل بنودها، بل استخفّ به وزاودَ عليه بقوله: “فليطرح غانتس إنذاراً لـ “حماس” لا لنا.. وشروطه كلمات تمّ تبييضها تفضي لهزيمة وإبقاء “حماس” في الحكم، وتأييد دولة فلسطينية”.
معركة على الرواية
حتى الآن، كان غانتس يؤجّل الاستقالة من حكومة الطوارئ، التي دخلها بعد السابع من أكتوبر، بسبب ضغوط من داخل حزبه وخارجه من أجل البقاء في حكومة الوحدة، كما عكست استطلاعات في السابق، لكن اليوم ضاق هامش المناورة لدى غانتس، وبات عارياً أمام الإسرائيليين: لا تأثير له على صناعة القرارات، ووزراء نتنياهو يهاجمونه علانية، ولذا فإن مغادرته المؤجّلة تندرج ضمن المعركة بينه وبين نتنياهو على وعي الإسرائيليين حول السؤال من هو المحقّ في موقفه. ولذا فإن غانتس في ذلك يبني عملياً روايته ليقنعهم بأنه ترفّع عن حسابات هامشية، وحاول البقاء لصالح حسابات الدولة ومصالحها، واستنفد كل الوسائل لكن دون جدوى.
وسارع الوزراء والنواب في اليمين الصهيوني المتشدد لمهاجمة غانتس بفظاظة تبدو منسقة، فقال سموتريتش إن “المراوحة في المكان سببها غانتس، الراغب بدولة فلسطينية بضغط أمريكي”. وتبعه بن غفير بنعته غانتس بـ “قائد صغير ومضلّل كبير، داعياً لتفكيك مجلس الحرب العالق بمفاهيم الماضي”. وانضم وزير الزراعة، رئيس “الشاباك” الأسبق افي ديختر، للحملة ضد غانتس، بقوله للإذاعة العبرية، اليوم، إنه عندما لا يجد ما يقوله داخل مجلس الحرب يخرج ويعقد مؤتمراً صحفياً.
ويكشف ديختر عن مخطط نتنياهو الحقيقي المعاكس لرؤية غانتس، بقوله إنه لا إمكانية لتحقيق أهدافنا دون السيطرة على غزة، وهذه تمكّننا من إدارة مفاوضات من موقع قوة”.
غانتس، الذي ردّ، ليلةَ أمس، على رد نتنياهو بالقول إن إسرائيل كانت قد دخلت رفح قبل ستة شهور لو أصغى نتنياهو لنا، يفضل البقاء في الحكومة لثلاثة أسابيع ضمن خطته للانسحاب التدريجي، كي لا ترافقها خسائر حزبية، بعكس دعوة رئيس المعارضة يائير لبيد لاستقالته الفورية، كما قال في كلمته الاستباقية (قبل مؤتمر غانتس) للمرة الأولى أمام المتظاهرين في تل أبيب، ليلة أمس. ودعوة لبيد لغانتس للاستقالة أيضاً لا تخلو من صراعات داخلية بينهما على الواجهة، وعلى ريادة المعارضة والحكومة البديلة المقترحة مستقبلاً.
تبعات على مستقبل الحكومة ومستقبل الحرب
وكيف ستؤثر استقالة غانتس على مستقبل الحكومة؟
تختلف التقديرات ويرجح كثيرون أن سقوط حكومة نتنياهو رغم ذلك مسيرة شاقة، إلا إذا بادر غالانت لخطوة دراماتيكية تؤدي لأثر الدومينو داخل الائتلاف الضيق. وهكذا بالنسبة لمستقبل الحرب، فنتنياهو ممعن بها لعدة عوامل، من البحث عن نصر مفقود، إلى البقاء في الحكم، ورفض دخول مسار الدولتين، ومن المستبعد أن تضطره الضغوط الخارجية لوقفها، خاصة أن الإدارة الأمريكية تبدو مترددة ومتناقضة في هذا المضمار، ولذا فإن نتنياهو يخشى الضغوط الداخلية المرشحة للانفجار، بحال استمرت خسائر الجيش في حرب استنزافية، وتصاعدت تحذيرات المراقبين والجنرالات في الاحتياط من أن الحرب باتت عقيمة وبلا جدوى، فهذا من شأنه دفع إسرائيليين كثر جدد للشارع مع عائلات المحتجزين.
ويتوافق عددٌ كبير من المراقبين في إسرائيل على أن غانتس قد أخطأ في تلكؤه بالخروج من الحكومة وفي وضع إنذار بدلاً من القيام بخطوة فورية، خاصة أنه يعلم أن نتنياهو لن يستجيب لدعواته غير أن بعض المراقبين المحليين يعتقدون أن استقالة غانتس ستلحق ضرراً بنتنياهو.
في مقال تنشره “معاريف”، اليوم، يرى المحلل السياسي بن كاسبيت أن نتنياهو وشركاءه في اليمين سيضطرون عندئذ لحمل أعباء الحرب الفاشلة حتى الآن لوحدهم. ويضيف: “في الحقيقة نتنياهو خائف من مفاعيل ذلك، ويميل للبكاء، ومن المتوقع أن تصبّ استقالة غانتس وآيزنكوت الزيت على نار الاحتجاجات وتجعلها أكثر قوة وفاعلية”.
لماذا الإنذار وليس الآن
بيد أن بن كاسبيت يتوقع أن يواصل نتنياهو التمسّك بنهجه، ومواصلة الحرب، رغم التساؤلات والانتقادات، وأن تبدأ اليوم حملة شيطنة لغانتس واسعة يشنها نتنياهو وأبواقه.
وهذا ما يؤكده أيضاً محلل الشؤون السياسية في القناة 12 العبرية نداف أيال، في مقال تنشره صحيفة “يديعوت أحرونوت” اليوم، وفيه يقول إن إنذار غانتس غايته الشروع بعملية جراحية معقدة: مغادرة الحكومة، والدفع لانتخابات مبكّرة، دون فقدان عشرة مقاعد حاز عليها على حساب معسكر نتنياهو، وفق استطلاعات كثيرة.
ويتابع نداف أيال: “في المقابل؛ نتنياهو سيشغل “ماكنة السمّ” لقتل غانتس سياسياً، ضمن محاولته إقناع الإسرائيليين بأنه محق في استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها”.
ويرى محلل الشؤون الحزبية في صحيفة “هآرتس” يوسي فرطر أنه كان على غانتس تقديم هذا الخطاب منذ زمن طويل، فهو ونتنياهو لم يجدّدا شيئاً للإسرائيليين، وأنه بدون خطاب غالانت، وبدون خطاب غانتس، يدرك كل إسرائيلي أن على رأس الدولة يوجد شخص لا يتمتع بالقيادية، ولا الوطنية.
ماكنة نثر السموم
ويتوقع محلل الشؤون العسكرية في “هآرتس” عاموس هارئيل أن تنطلق اليوم حملة تحريض واسعة على غانتس يقودها نتنياهو، و”لذلك سنشهد لعبة تبادل تهم.. والحملات ضد غانتس ستتصاعد، وماكنة نثر السموم الخاصة به وبمريديه ستعمل ساعات إضافية الآن”.
ويرى هارئيل أن إعادة جثامين الإسرائيليين الأربعة، أمس، طرحت من جديد قضية المخطوفين للوعي الإسرائيلي: “بالذات عندما صارت مداولات الصفقة عالقة، تبدو الاحتجاجات قد فقدت من ألقها وقوتها، فأعادت الجثامين القضية للمكان الجدير المستحق”.
وينضم هارئيل للانتقادات الموجهة لغانتس لتأجيله الاستقالة بقوله إن “غانتس حدّد تاريخاً للمغادرة، لكنه أبقى لنتنياهو مكاناً واسعاً للمناورة”.