نصل، اليوم، إلى الفريق الثاني من المأزومين، الموسوم بلغة أصحابه “بمحور المقاومة والممانعة”، والذي يضم دولتين هما سورية وإيران، وقوى مسلحة غير نظامية في فلسطين ولبنان والعراق واليمن.
ومن ناحية عملية، يبدو وجود سورية، في المحور، بعد اندلاع الحرب الأهلية، رمزياً إلى حد بعيد، علاوة على مزاعم النظام العلمانية.
وهذا الاستثناء يبدو مطلوباً، ومفيداً، في تشخيص السمة السائدة لبقية مكوّنات المحور، كتمثيلات دولانية، وغير نظامية، لوجه من وجوه الإسلام السياسي.
والواقع أن انتساب القوى المعنية إلى الإسلام السياسي مصدر أوّل ورئيس من مصادر أزمتها، فصعود الدواعش، كأعلى مراحل الإسلام السياسي الإخواني – الوهابي خلق نفوراً في مجتمعات الحواضر العربية، على نحو خاص، من الظاهرة نفسها، وأثار قدراً كبيراً من الذعر لدى مموليها، ورعاتها التقليديين، ودفيئاتها بعدما انقلب جناح منها عليهم من ناحية، وبان من مخاطرها ما لا يمكن للعالم التعايش معه، من ناحية ثانية.
هذه هي الحكمة التقليدية الشائعة conventional wisdom المقبولة على نطاق واسع، ولكنها لا تفي، رغم صحتها، بالغرض.
المقصود أن الثورة الإيرانية، انطوت على ميول معادية للكولونيالية، تعززت على يد جناحها اليساري، ولم يكن في وسع آيات الله، بعد نجاحهم في الاستيلاء على الثورة، الانقلاب على الميول المعنية، ناهيك عن أن العداء نفسه كان وسيلة ناجحة لإحكام قبضتهم على السلطة الثورية الجديدة.
وبالقدر نفسه، وجد العداء للنظام الشاهنشاهي مبرراته في طموحات بالتعددية السياسية راودت أجيالاً من المصلحين والساسة، على مدار قرن من البحث عن مخرج من مأزق العلاقة بالأزمنة الحديثة.
وهذا ما لم تستطع سلطة الملالي الانقلاب عليه، أيضاً، في مجتمع يضم طبقة وسطى شديدة الكفاءة والفعالية، وحركة طلابية راديكالية، وتقاليد يسارية ونقابية وبرلمانية سبقت الثورة، وأثّرت عليها.
تجلّت تجربة الثورة الإيرانية، إذاً، نتيجة ديناميات كهذه بوصفها اقتراحاً لصيغة “إسلامية” في الحكم، وسياسة راديكالية معادية للكولونيالية.
وعلى الرغم مما وسم الاقتراح وتطبيقاته من تلفيق، إلا أن الصيغة، متضافرة مع العداء، بدت مفزعة في نظر اليمين الديني، والدفيئات الإبراهيمية، خوفاً من العدوى.
ولم تكن أقل إثارة للفزع في نظر الأميركيين، الذين فقدوا، بفقدان الشاه، الركن الثاني في استراتيجيتهم العسكرية والسياسية في الشرق الأوسط بعد إسرائيل.
ثمة الكثير من الكلام عن “محور المقاومة والممانعة” في مرافعات محبيه ومُبغضيه، على حد سواء. ولكن المسكوت عنه في الحالتين هو نجاح الإيرانيين: بالتفعيل المنهجي للعصبيات الطائفية، والاستثمار الناجح لعداء عميق الجذور للكولونيالية في العالم العربي المفيد، والشرق الأوسط، في ممارسة دور قوّة إقليمية صاحبة نفوذ خارج حدودها، لا بمفردات القوّة الناعمة وحسب، بل وبمفردات القوّة المسلحة، أيضاً.
وكما أن النجاح مسكوت عنه، فإن أسباب النجاح مسكوت عنها، أيضاً. وفي طليعتها: أن النجاح في تعبئة وتجنيد واستخدام قوى مسلحة غير نظامية، على مدار عقود، لم يكن ممكناً لو لم تتوفر أسباب موضوعية، سياسية، في المقام الأوّل.
وما من أسباب موضوعية، سياسية (وما فوق طائفية) أشد فعالية وقوة ونفوذاً من عداء راسخ الجذور للكولونيالية في العالم العربي المفيد، والشرق الأوسط الكبير.
وبهذا المعنى، تبدو المسألة الفلسطينية وسيلة إيضاح مثالية، فعلاً. فتفعيل العصبيات الطائفية يحتاج، ويستدعي، مضامين سياسية تتجاوز المصلحة الضيّقة للطائفة، وتجد في مسألة مركزية، فعلاً، أرضية مشتركة للممارسة السياسية بوصفها فعالية وطنية، أو قومية، أي أبعد من حدود الطائفة.
وطالما وصلنا إلى هذا الحد فلا ينبغي تفسير هذا الكلام كمرافعة لمصلحة ما وصفناه بوجه آخر للإسلام السياسي، إذ يمكن العثور على مسكوت عنه في الكلام عن هذا الوجه، أيضاً. لذا، لا تكفي فرضية النفور من ظاهرة الإسلام السياسي، بصرف النظر عن تسمياته وراياته، لتشخيص أزمة هذا الوجه. فمن المداخل الأساسية لتحليل الأزمة أن مجرد العداء للكولونيالية، لم يعد سبباً كافياً لمنح الثقة، أو التسليم، من جانب قطاعات واسعة من الناس، بحق القوى المعنية (غير الدولانية بشكل خاص) في تمثيل المصالح الوطنية.
لذا، تميل الجماعات المعنية إلى العنف، أو التلويح به، ويتجلى صعودها كشكل من أشكال الحرب الأهلية، أيضاً.
المصدر العميق للتحفظ على منح الثقة، أو عدم التسليم، هو المرّات الكثيرة، التي نامت خلالها مجتمعات وشعوب كثيرة على ريش الأحلام، لتصحو بعدها على كوابيس الواقع. وبقدر ما أرى فهذه علامة نضج صنعتها تراكمات بطيئة على مدار ما يزيد على قرن من الزمان، ومن المؤكد أنها لم تكتمل بعد.
بمعنى أكثر مباشرة، نعثر على تجليات مختلفة لذلك القدر من التشاؤم التاريخي (والمفيد) في علاقة العالم العربي المفيد بماضيه، وحاضره، ومستقبلاته المحتملة.
وما يزيد من مأزق القوى المعنية، غير الدولانية على نحو خاص، أنها فقيرة بالمعنى السياسي والأيديولوجي، معادية لنموذج الدول الديمقراطية، وتعاني من غربة كارثية عن العالم، إضافة إلى مصاعب جدية تعترض إمكانية النظر إلى نظام الدولة الإيرانية كمصدر للمحاكاة والإلهام.
وإذا شئنا الاستطراد في تحليل تعقيدات الأزمة: فلنقل إن التشاؤم التاريخي (والمفيد) قد دفع قوى أُخرى إلى محاولة التأقلم مع الواقع، والبحث عن تسويات تبدو أقل كلفة.
ومع ذلك، يتضح الآن، بعد رهانات ومجازفات كثيرة، أنها لم تكن مؤلمة وفاشلة بدرجة أقل من خيبات أمل سابقة على رهانات أكثر راديكالية.
هذه دائرة تكاد تكون مُغلقة، فيها من الأسئلة أكثر مما فيها من الإجابات.