وصلنا إلى أهداف الحرب. وهذا لن نتمكن من تحليله بطريقة صحيحة، ما لم نضع في الاعتبار ثلاثة أمور: أولاً، إذا قلنا إن الحروب تبدأ بالطريقة التي يريدها المخططون والمنفذون، فينبغي القول: إنها لا تنتهي، في كل الأحوال، بالطريقة والنتائج التي توقّعوها (حرب 1967). وثانياً، ما يزيد من تعقيد معادلة كهذه أن ما يتجلى، أحياناً، كنتائج حاسمة بعد نهاية الحرب بوقت قصير، قد لا يكون كذلك في المدى المتوسط والبعيد (حرب اجتياح لبنان، واحتلال بيروت 1982).
وثالثاً، لكل حرب خصوصيات ثقافية وسياسية تحكم ترتيب الأولويات والأهداف، وكيفية تحقيقها. ففي حروب الأميركيين في أفغانستان والعراق، مثلاً، أثّر هدف “كسب القلوب والأذهان” على سلوك الجيش، وسير العمليات، ووتائر العنف، في الميدان. بينما تصلح الحرب الإسرائيلية، على غزة، وسيلة إيضاح لخصوصيات من نوع آخر، وعلى طرف نقيض.
مع هذه الأمور الثلاثة في البال، يمكن أن نتكلّم، إذاً، عن أهداف الحرب الإسرائيلية منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. ومع ذلك، ينبغي التشديد على حقيقة أن الكلام في هذا الجانب لا يعني ممارسة دور المحلل العسكري (جنرال الكنبة) واستعراض الأهداف المُعلنة للإسرائيليين: تدمير “حماس”، استعادة الرهائن، وضمان ألا تشكل غزة تهديداً أمنياً في يوم من الأيام.
لا أود التقليل، هنا، من ضرورة تحليل الأهداف المذكورة. ومع ذلك، أعتقد أن المبالغة في هذا الجانب، خاصة لغرض التدليل على خلاصات متسرعة، وسابقة لأوانها، من نوع النصر أو الهزيمة، تُسهم في حجب دلالات أبعد وأعقد. وهذا، ما يتمثل في جانب منه، بقدر ما أرى، في الأمر الثالث، الذي ألمحنا إليه: الخصوصيات الثقافية والسياسية الحاكمة لسلوك الإسرائيليين في الحرب، وتصوّراتهم عنها.
فعلى مدار العقدين الماضيين، سادت في لغة المحللين الإسرائيليين تعبيرات من نوع “كيّ الوعي”: الهدف الرئيس لما يُعرف في علوم العسكرية بحروب الجيل الرابع. وهي حروب هجينة طويلة الأمد، ومتعددة الطبقات والجبهات، عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية، تنتهي بوصول العدو إلى قناعة بلا جدوى المقاومة، وما يستدعي واقع كهذا من رضوخ، وإحساس بالدونية، وكراهية الذات.
والملاحظ أن النتائج المترتبة على اختبارات مختلفة للقوّة، على مدار الفترة الزمنية نفسها، أقنعت عدداً متزايداً من صنّاع القرار الإسرائيليين (ونسبة لا بأس بها من الفلسطينيين) بصحة نظرية الارتباط الشرطي للعالم الروسي بافلوف. وعلى الرغم من حالة غزة الاستثنائية، خاصة بعد الانقلاب الحماسي، إلا أن سلسلة الحملات العسكرية اللاحقة لم تُقنع الإسرائيليين بإعادة النظر في مفهوم “كيّ الوعي”. لذا، تجلت الحملات المعنية كدروس في الردع، وبما لا ينفي بل يؤكد نظرية الارتباط الشرطي نفسها.
ومنذ دخول ترامب إلى البيت الأبيض على نحو خاص، وسلوكه المنحط والصبياني إزاء الفلسطينيين والمسألة الفلسطينية، ومع حقائب المال القطرية إلى “حماس” في غزة، عن طريق إسرائيل، و”سلام إبراهيم”، والكلام عن “لفتات” إسرائيلية للفلسطينيين، بدلاً من الكلام عن إنهاء الاحتلال، وحلّ الدولتين، بدا وكأن ما يحدث، لا يفوق ما كان حلماً عصياً في وقت مضى وحسب، بل ويؤكد نجاح مشروع “كيّ الوعي”، ونظرية الارتباط الشرطي، أيضاً.
وقد برع الإسرائيليون في هذا الجانب على نحو خاص. والواقع أن في ولعهم بنظرية الارتباط الشرطي، ومحاولة دفعها إلى الحد الأقصى، وما بعد بعد الأقصى، في العلاقة مع الفلسطينيين، ما يدل على فشل في السياسة، ويؤكد علاقتهم الإشكالية بالواقع، وكأن على الفلسطينيين تسديد فواتير جراح نرجسية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
والمفارقة، في هذا الشأن، أن السلوك المعني، وبقدر ما ألحق من الأذى بالفلسطينيين على مدار عقدين من الزمن، وما نجم عنه من خيبة أمل وشتائم طالت السلطة الفلسطينية نفسها، إلا أنه أقنع قطاعات واسعة من الناس في الغرب، في الجامعات، والأوساط الثقافية، على نحو خاص، بحقيقة أن التسوية السياسية مع الفلسطينيين ليست أولوية بالنسبة للإسرائيليين.
مع هذا كله، في الذهن، فلنفكّر في اللطمة التي طالت الإسرائيليين في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) في اتجاهين مختلفين. الأوّل: انهيار إستراتيجية الارتباط الشرطي، وفشل “كيّ الوعي” بطريقة عنيفة، مفاجئة، مُهينة، وصادمة. والواقع أن عالماً بأكمله قد انهار في ذلك اليوم. أو كما جاء على لسان مسؤول إسرائيلي كبير “انكسر شيء ما فينا”، حسب ما نشرته مجلة السياسة الخارجية الأميركية في عددها الأخير.
في انهيار عالم بأكمله، وانكسار شيء ما، ما يفسّر المستوى غير المسبوق للعنف، والإصرار على تحقيق الإستراتيجية نفسها، وكيّ الوعي، بجرعة مضاعفة من التدمير، واللجوء إلى حلول انتحارية (طرد أعداد كبيرة إلى سيناء، واقتطاع مساحة جغرافية غير معروفة حتى الآن). أما الاتجاه الثاني فيتمثل في الاعتراف بفشل سياسات ورهانات كيّ الوعي، والارتباط الشرطي، على مدار العقدين الماضيين، وضرورة البحث عن أفق للتسوية السياسية مع الفلسطينيين.
سيحتاج الأمر إلى فترة قد تطول أو تقصر قبل العثور على إستراتيجية بديلة. فليس من السهل الانتقال من خيار إلى آخر، بعد كل هذا القدر من التعبئة، والاستقطاب، في المجتمع الإسرائيلي. ولن يكون الأمر ممكناً مع وجود الحكومة الحالية في الحكم.
وبالقدر نفسه، لن يكون الانتقال إلى إستراتيجية بديلة ممكناً وفاعلاً، في المدى المتوسط والبعيد، ما لم تتحول العلاقة بالفلسطينيين، والتسوية السياسية معهم، إلى جزء من عملية الصراع الذي بدأ في أوائل العام الحالي، ولم يتوقف إلا يوم اندلاع الحرب، على روح وهوية الدولة والمجتمع الإسرائيليَّين، بين معسكرَين على طرفَي نقيض. فاصل ونواصل.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0