تعيش المنطقة العربية مرحلة مفصلية، تتداخل فيها المصالح السياسية والأطماع الجيوسياسية، ويظهر المشروع الإسرائيلي المعروف بـ»إسرائيل الكبرى» كأحد أخطر ملامح هذه المرحلة. تقوم هذه الرؤية على توسيع حدود إسرائيل لتشمل أراضي تتجاوز فلسطين التاريخية، وهو هدف يُزعم أنه يستند إلى تفسيرات دينية من التوراة. ومع التغيرات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، يتضح أن هذا المشروع لم يعد مجرد خطاب ديني أو سياسي، بل إستراتيجية تنفذها حكومة الاحتلال بقيادة اليمين المتطرف.
تستند فكرة «إسرائيل الكبرى» إلى نصوص دينية توراتية تُفسَّر لتشمل الأراضي الممتدة من النيل إلى الفرات. وقد روّج لهذه الفكرة عدد من القيادات الإسرائيلية، بدءاً من ديفيد بن غوريون، وصولاً إلى بنيامين نتنياهو، الذي أشار مؤخراً إلى «تغير» في المنطقة، معتبراً أن انهيار الحدود التي رسمتها معاهدة سايكس – بيكو يمثل فرصة تاريخية لتوسيع إسرائيل.
هذا التوسع لم يعد نظرياً، فقد أعلنت إسرائيل نهاية اتفاقية فض الاشتباك الموقعة العام 1974 مع سورية، وبدأت بتنفيذ خطط لضم أجزاء جديدة من مرتفعات الجولان. بالإضافة إلى ذلك، تواصل إسرائيل تهجير السكان السوريين من قراهم، ما يبرز استغلالها للأوضاع المضطربة في سورية بعد سقوط نظام بشار الأسد.
في ظل هذه التغيرات، يُلاحظ غياب أي موقف حازم من القوى السياسية السورية الجديدة تجاه القضم الإسرائيلي للأراضي السورية. تصريحات قائد «هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، التي تقلل من أهمية الصراع مع إسرائيل وتعتبره «نزاعاً إقليمياً بين إيران والمنطقة»، تسلط الضوء على هذا الفراغ السياسي.
السلطة الانتقالية في سورية، رغم ضعفها، لم تصدر موقفاً يثبّت على الأقل أن الجولان المحتل والأراضي التي استولت عليها إسرائيل حديثاً أراضٍ سورية. هذا الصمت يُظهر إشكالية كبرى في التعامل مع ملف الاحتلال الإسرائيلي.
يتضح أن مشروع «إسرائيل الكبرى» ليس مجرد خطاب تاريخي، بل هو خطة إستراتيجية تتبناها حكومة اليمين الإسرائيلي بقيادة نتنياهو. تصريحات وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، التي طالب فيها بامتداد حدود إسرائيل حتى العاصمة السورية وضم الأردن، تعكس هذا الطموح الاستيطاني. كما شهد العام الماضي عرض خارطة لـ»إسرائيل الكبرى» خلال زيارة سموتريتش إلى باريس، تضمنت كامل فلسطين التاريخية وأجزاء من الدول العربية المجاورة.
هذه التصريحات والسياسات تتزامن مع تصعيد إسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية. عمليات التهجير في شمال غزة، والضم التدريجي للضفة، خطوات مدروسة لتقليص الوجود الفلسطيني، وتمهيد الأرض لتحقيق الحلم الصهيوني بالتوسع.
تمدد إسرائيل داخل الأراضي السورية يشكل تهديداً للأمن القومي لدول المنطقة، خاصة العراق. فالمشروع الصهيوني يسعى لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط عبر تفتيت الدول العربية، وتحويلها إلى دويلات صغيرة تعتمد على إسرائيل في بقائها وشرعيتها.
وثيقة «خطة ينون»، التي تعود لعام 1982، تقدم تصوراً واضحاً لهذه الإستراتيجية، حيث دعت إلى تقسيم الدول العربية إلى كيانات أصغر لضمان الهيمنة الإسرائيلية. هذه الخطة تعكس رؤية بعيدة المدى تعتمد على استغلال الاضطرابات الداخلية في العالم العربي لتحقيق أهدافها.
منذ توقيع اتفاقيات السلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل، سادت قناعات لدى العديد من النخب بأن الأطماع الإسرائيلية خارج فلسطين التاريخية مجرد خرافة. لكن الأحداث الأخيرة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 أثبتت عكس ذلك، حيث بات واضحاً أن المشروع الصهيوني بالتوسع خارج حدود فلسطين جزء من العقيدة الإسرائيلية.
السيطرة المتزايدة للصهيونية الدينية على القرار الإسرائيلي تعزز هذا الاتجاه. قيادات مثل دانييلا فايس تؤكد علناً أن الحدود التي وعد بها الرب لإبراهيم تشمل أراضي من دول عربية متعددة، وتستند إلى نصوص دينية لتبرير الاحتلال والتوسع.
مع تزايد هذه التحديات، يصبح من الضروري أن تتحرك الدول العربية والمجتمع الدولي لوقف تمدد إسرائيل ومنع تحقيق مشروع «إسرائيل الكبرى». الحراك الأممي مطلوب ليس فقط لحماية الأمن القومي لدول المنطقة، بل للحفاظ على استقرار الشرق الأوسط بأكمله.
في ظل سياسات الاحتلال القائمة على القتل والتهجير والاستيطان، يتضح أن السعي الإسرائيلي لتوسيع الحدود لم يعد خيالياً، بل حقيقة تهدد الجميع. إن الصمت العربي والدولي أمام هذه التحديات يعمق الأزمة، ويترك المجال مفتوحاً أمام إسرائيل لفرض واقع جديد، قد يكون من الصعب تغييره مستقبلاً.
لا يمكن تجاهل أن مشروع «إسرائيل الكبرى» بات أكثر وضوحاً وخطورة، مستغلاً حالة الانقسام والضعف في المنطقة. هذه المرحلة تتطلب موقفاً عربياً موحداً وإستراتيجية شاملة للتصدي لهذه الأطماع، قبل أن يتحول المشروع إلى واقع يغيّر ملامح المنطقة بشكل جذري.