ظهرت في الولايات المتحدة، في تموز الحالي، أربعة كتب، دفعة واحدة، في أقل من ثلاثة أسابيع، واستأثرت كلها بجانب كبير من السجال العام، واهتمام التيار الرئيس في وسائل الإعلام الأميركية، والأوروبية، خاصة أن بعضها ترجم إلى لغات أُخرى، وتزامن توقيت صدوره مع الطبعة الإنكليزية.
والواقع أن السباق بين دور النشر، في هذا المضمار، واستئثار الكتب الأربعة بجانب كبير من اهتمام الرأي العام، يرجع في جانب كبير منه إلى كونها شهادات، من زوايا مختلفة، عن إدارة ترامب، وأيامه الأخيرة في البيت الأبيض. ولهذا الموضوع طاقة تسويقية عالية، ناهيك عن كونه في صدارة ما يشغل الناس سواء كانوا من العامة، أو الباحثين في علوم السياسة، والناشطين في الحقل السياسي والثقافي العام.
الكتب الأربعة هي: “سيناريو الكابوس” لياسمين أبو طالب، وداميان بالتا، عن الموقف الكارثي لترامب من جائحة “كورونا”، التي أودت بحياة ما يزيد على نصف مليون من الأميركيين. ويُعتقد أن إدارته للجائحة من أسباب فشله في الانتخابات الرئاسية. والكتاب الثاني لمايكل وولف “أغلبية ساحقة” عن أيام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض. والثالث “بصراحة، ربحنا هذه الانتخابات” لمايكل بِندر عن الخسارة الانتخابية لترامب. والرابع “أنا فقط مَنْ يُصلح الأمر” لكارول لونيغ وفيليب روكر عن رئاسة ترامب في عامها الأخير.
أحاولُ، في معالجة اليوم، التعقيب على كتاب وولف “أغلبية ساحقة”، ويمكن ترجمة العنوان بعبارة “فوز ساحق”، أيضاً. وهذه العبارة هي العنوان الرئيس لما يُسمى في الولايات المتحدة، هذه الأيام، الكذبة الكبرى. فما أن رجحت كفة الميزان لصالح المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية، وقبل إعلان النتائج النهائية، حتى رفض ترامب الاعتراف بالهزيمة قائلاً: إنه حقق فوزاً ساحقاً، وإن الانتخابات سُرقت منه. وما زال هذا عنوان “الكلام الفاضي” والهراء الذي يتفوّه به كل يوم. بالمناسبة تعبيرات من نوع “الكلام الفاضي” و”الهراء” صفات شائعة يستخدمها المعلّقون الأميركيون في التعقيب على كلام ترامب، وقد ترددت كثيراً في كتاب وولف.
على أي حال، هذا هو الكتاب الثالث لمايكل وولف عن ترامب، بعد “النار والغضب”، عن أيامه الأولى في البيت الأبيض، و”الحصار”، عن تزايد الضغوط عليه في مجابهة تحقيق مولر، وشبهات تدخل الروس في الانتخابات الرئاسية.
قرأتُ الكتابين الأول والثاني في وقت صدورهما (2018 و2019) وانتهيت من الثالث قبل أيام قليلة. وبما أن القراءات تتعدد بعدد القرّاء، يمكن القول: إن الكتاب الجديد لم يضف جديداً إلى الصورة التي رسمها وولف في كتابه الأوّل عن ترامب.
فقد أورد في الكتاب الثالث ما لا يحصى من الشواهد عن جهل ترامب في شؤون السياسة والرئاسة، وعن نرجسيته، وفساده، وفقره العاطفي والإنساني، وكل ما تنطوي عليه صفات كهذه من مخاطر محتملة على حاضر ومستقبل السلام الأهلي، والديمقراطية الأميركية. ترامب في الكتاب الأوّل عبارة “عن طفل فاسد يصعب التكهن بردود أفعاله”، كما تقول مساعدة له في البيض الأبيض. العبارة التي أوردها وولف حرفياً.
لذا، كل ما في الأمر أن الكتاب الثالث، وإن لم يُضف جديداً، إلا أنه يعمّق كل ما تقدّم من دلالات، ويعززها بشواهد إضافية، ويسلّط الضوء بتركيز أكبر على ما فيها من مخاطر مُفزعة. فترامب، وهذا الكلام كله لوولف، لا يستطيع التركيز على شيء أكثر من 15 ثانية، ولا يستطيع الربط بطريقة منطقية بين أوّل الجملة وآخرها، لا يفقه شيئاً في شؤون السياسة، ولا ثقافة عامة لديه، وحتى التقارير الاستخبارية التي يطلع عليها الرؤساء الأميركيون لا تثير اهتمامه، ولا يعنيه شيء في الكون سوى صورته على شاشة التلفزيون، ورصيده في البنك، ويعتقد أن كل مشاكله يمكن أن تُحل إذا وجد المحامي المناسب.
قد يبدو هذا الكلام مهيناً في نظر الغالبية العظمى من الناس، ولكن لا صدى أو قيمة لهذا كله في نظر ترامب، الذي لا يشعر بالخجل، ويعيش في عالم آخر يختلط فيه الواقع بالوهم. وقد وافق على إجراء مقابلة مع وولف رغم الصورة السلبية التي رسمها له في الكتاب الأوّل، لأن هذا الكاتب يحظى بجمهور واسع، و”قيمته في استطلاعات الرواج كبيرة”، كما يعتقد.
كف ترامب عن ممارسة كل المهام الموكلة للرئيس، وإدارة الدولة، في الولايات المتحدة، وتفرّغ في أيامه الأخيرة لإدارة الحملة الانتخابية، والترويج للكذبة الكبرى لقلب نتيجة الانتخابات، والبقاء في البيت الأبيض.
تستدعى صورة كهذه أسئلة يصعب تفاديها: كيف نجح شخص بهذه الصفات العقلية، وهذا القدر من الوضاعة والنواقص، في السيطرة على الحزب الجمهوري، وعلى قطاع واسع من الناخبين الأميركيين (صوّت له قرابة 74 مليوناً من الناخبين)؟ مَنْ أوصله إلى البيت الأبيض؟ ومَنْ دفعه إلى اتخاذ قرارات مصيرية في السياستين الداخلية والخارجية للولايات المتحدة، كان الفلسطينيون، ضمن آخرين، من ضحاياها؟
لست من المولعين بنظرية المؤامرة. وأعتقد أن ظاهرة ترامب يمكن تفسيرها بعلوم السياسة والاجتماع، بقدر ما يتعلّق الأمر، بالحقل السياسي، والثقافة والمجتمع الأميركيين. ومع ذلك، وردت في “أغلبية ساحقة” إشارة عابرة تقول: إن كوشنر، زوج ابنته وكبير مستشاريه (ومهندس سلام إبراهيم، أيضاً)، كان أقوى رجل في البيت الأبيض بعد ترامب، وأنه كان من العقلاء القلائل، الذين أحاطوا به، وحاولوا حمايته من نفسه ومن الآخرين، وسط حشد من المجانين، والانتهازيين، والمنافقين. نتكلّم في معالجة لاحقة عن الأسئلة السابقة، وعن إشارة وولف العابرة.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0