حين تتبنَّى الإدارة الأميركية مبدأ حلّ الدولتين، وتتحدَّث بصورة مباشرة عن حتمية قيام دولة فلسطينية، فإنَّ تحفظها الدبلوماسي على الاعترافات الأوروبية لا قيمة له.
الخلاف هنا بين من اعترف – أو سيعترف – وبين أميركا، يتركز في الوسائل وليس في المبدأ. أميركا الخائفة دوماً من ردود الفعل الإسرائيلية ومن يمالئها في أميركا، تريد دولة فلسطينية تولد من خلال التفاوض المباشر بين طرفَي النزاع، وهي بهذا الموقف تنأى بنفسها عن القيام بجهد واضح ومباشر في هذا الاتجاه، تاركة الأمر للطرف الإسرائيلي الذي يرفض قيام الدولة مبدئياً وفعلياً، وللطرف الفلسطيني الذي يرى أرض الدولة المنشودة تتبدد بحربَين متوازيتَين: على غزة حرب تدمير وإبادة، وعلى الضفة حرب إخضاع وإغلاق آفاق.
ما يجري على صعيد الاعترافات الأوروبية، المرشحّة للازدياد، أمرٌ حذَّرت منه أميركا قبل أن يحدث؛ إذ لم يمر يوم منذ ظهور الاختلافات الأميركية الإسرائيلية حول الطريقة التي تجري بها الحرب على غزة، وما يفعله المستوطنون في الضفة، دون أن تحذِّر إسرائيل من العزلة الحتمية التي ستتعرض لها، والتي لم تتوقف عند الدول ذات الموقف التقليدي من تأييد الحقوق الفلسطينية؛ بل ستزحف لتقتحم دول «الناتو»، ناهيك عن زحفها الدراماتيكي إلى الشوارع والجامعات الأميركية.
نظرياً ومنطقياً، ما دامت أميركا تحذِّر إسرائيل مما يحدث فعلاً، فينبغي عليها أن تمارس سياسة أكثر وضوحاً، ليس نحو مبدأ قيام الدولة الفلسطينية، بل نحو إقامتها بالفعل، بعد أن تهيأت حالة دولية شاملة في تأييدها، والبحث عن وسائل لإقامتها.
إدارة بايدن التي وقعت حرب غزة في عهدها، وأرغمتها على دفع كثير من أثمانها، اتخذت منذ الأيام الأولى لوقوعها وحتى أيامنا هذه سياسة خاطئة تماماً، وعديمة الجدوى، بل إنها تحقق نتائج عكسية. ولا تخفى على متابعيها حقيقة أن ظهور أميركا بمظهر الدولة العاجزة عن الإنجاز – مهما كان متواضعاً – سببه إسرائيل وحكومة نتنياهو بالذات، بالإضافة إلى الوضع الداخلي في إسرائيل الذي بلغ من الاختلاف والتناحر والمزايدات المتبادلة، حد إغلاق الأبواب أمام أميركا وغيرها لتحقيق نجاح ما، سواء على صعيد الهُدَن المحدودة والتبادل، أو على صعيد التمهيد لفتح أفق سياسي لما بعد الحرب.
إسرائيل التي لا تزال تُقاد من قبل حكومة يمينية، على رأسها نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، هي مَن أحدثت شروخاً عميقة بين أميركا وبين من يفترض أنهم حلفاؤها، بدءاً من دول «الناتو» وليس انتهاءً بدول الشرق الأوسط التي تعاونت مع أميركا من أجل وقف الحرب على غزة، وتفاهمت مع منطقها السياسي المعلن القائم على حلّ الدولتين، والذهاب إلى تحقيقه بحلّ جذري لمعضلة الشرق الأوسط وحروبه المتواترة.
لقد استقبلت دول المنطقة الوازنة والمؤثرة الجهد الأميركي ومبعوثيه رفيعي المستوى بإيجابية وتفهم، وقدمت كل ما تستطيع من تسهيلات لنجاح المسعى المشترك لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، والذهاب إلى مسار سياسي جذري أجمع العالم كله عليه. ولا تزال – رغم التشويش الإسرائيلي والاستفزاز الصارخ الذي تجلَّى في مسألة رفح – جاهزة لمواصلة دورها، سواء فيما يتصل بوقف الحرب على غزة، أو فيما هو أبعد من ذلك، أي الأفق السياسي الذي ينبغي أن ينطلق فعلاً في اليوم التالي.
كل هذه الإيجابية، وكل هذا التعاون الفعال من جانب الدول العربية، سواء تلك التي تؤدي دور الوساطة، أو من تدعمها من الدائرة العربية الأوسع، ورغم كل الرصيد الذي وُضع بين يدي أميركا، فإن الذي بدَّده فعلاً هو الجانب الإسرائيلي الذي اعتاد على انقياد الإدارة لرغباته، حتى الجنونية منها.
أوروبا ذاهبة في مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، دون أن يتعارض ذلك مع رغبتها في أن يتم تفاوض فعَّال بين الفلسطينيين والإسرائيليين تحت عنوانها، ومن أجل بلوغها، إلا أن ما يبدو غير منطقي أن يظل الموقف الأميركي مرتهناً للَّامنطق الإسرائيلي، بحيث تتوقف فاعليته عند الموافقة المبدئية على حلّ الدولتين، والامتناع عن القيام بأي جهد جدِّي لفتح آفاق عملية لبلوغه.
إنَّ الاعترافات الأوروبية، والمواقف التي تبلورت في تصويت الجمعية العامة ومجلس الأمن، يفترض أن تكون أكثر من كافية لبلورة سياسة أميركية واقعية وعملية من مسألة الدولة الفلسطينية. ولكن ما الحيلة ونحن في موسم انتخابي يغيب فيه المنطق، وتتراجع فيه حتى المصلحة الأميركية المباشرة؟ فهذه الدولة العظمى، خصوصاً في موسم الانتخابات، سياستها «اللاسياسة».