ما أن أقفلت “التهدئة الإنسانية” يومها السابع حتى استؤنفت ماكينة القتل والتدمير بصورة أكثر فظاعة وهمجية . وكأن عصابة الحرب الاسرائيلية تسابق الزمن لتنفيذ مخططاتها بوضع المليونين و ربع مليون فلسطيني بين خياريّ الموت و الرحيل . فبعد أن حاولت تلك الحكومة تضليل العالم بأنها توفر مناطق آمنة في جنوب وادي غزة، الأمر الذي تدحضه معدلات الضحايا من المدنيين التي فاقت 45% في من إجمالي الضحايا. بتوقف الهدنة يتصرف جيش الاحتلال وكأن الوقت المحدد لن يسعفه لاستكمال التطهير العرقي، فبدأ بالمجاهرة به كخيار وحيد لتجنب الموت.
بانقضاء الهدنة المؤقتة، التي كما يبدو قد أُجبر عليها نتانياهو، في محاولة من البيت الابيض لاحتواء الانتفاضة الشعبية ضد الدعم المطلق لاسرائيل من قبل الادارة، عادت مجازر الابادة تعم مختلف مدن ومخيمات وبلدات القطاع من شماله إلى جنوبه، واستأنف عداد الموت يحصي مئات الضحايا يومياً، ويحصد أرواح عائلات بأكملها . هذا في وقت يدعو فيه جيش الاحتلال وتحت نيران القذائف سكان خانيونس والنازحين إليها بالانتقال إلى رفح، التي لم تعد تتسع لموطئ قدم من أهل غزة الذين فقدوا بيوتهم كما فقدوا مراكز الايواء بعد تدميرها.
ما يلفت الانتباه وفقاً للصحافيين الذين ما زالوا في الميدان رغم آلة القتل التي تطاردهم، أن تركيز القصف في شمال غزة يستهدف أساساً البيوت التي فتحت أبوابها للمدمرة بيوتهم ويرفضون التهجير، كما عاد يستهدف قصف ما تبقى من أقسام المشافي التي تحاول دون أي موارد الاستمرار في علاج الجرحى، هذا في وقت أن “أيام الهدن الانسانية” مرت دون حصول هذه المشافي على ما يلزمها من مستلزمات طبية أو وقود، كما فشلت المنظمات الدولية في تزويد أهل الشمال بالمواد الغذائية، التي دخلت القطاع على شحتها. فحكومة الحرب تعاملت مع تدفق المواد الغذائية والمستلزمات الطبية كمكون من حرب الابادة والتهجير التي تواصل تنفيذها بحصد الأرواح وقتل كل مظهرٍ للحياة فيها.
الخطة الاسرائيلية واضحة، وهي التهجير أو الابادة لمن يتشبث بالأرض، فهي الوسيلة الوحشية التي تعتقد اسرائيل أنها ستمكنها من القضاء على المقاومة، بأن تصبح غزة بلا شعب قرر الموت أو النصر، رغم كل الألم والمأساة الانسانية غير المسبوقة في التاريخ، وهذا ليس من باب عملقة أهل غزة وتضخيم بطولتهم، فهم بشر عاديون ينشدون الحياة والكرامة والمأكل والمسكن بل ويتطلع شبابهم للمستقبل الملئ بالحب والنجاح والاستقرار كغيرهم من شباب العالم، ولكن عندما يحشر الناس بين الموت بمذلةٍ في صحاري التشريد، أو الموت بكرامة انسانية، فقد علمتنا التجارب منذ النكبة أن نختار الكرامة والحياة بكرامة أولاً وأخيراً. هذا موقف الناس في غزة. فماذا عن دور التجمعات الفلسطينية الأخرى ليس فقط في الضفة الغربية المحتلة، والتي تواجه حرب الضم والتهجير بما تبقى لديها من نواجد وطاقة أثخنها الانقسام بجروح دامية؟ والأخطر والأهم ماذا عن دور من تسمي نفسها “القيادة الشرعية”، وكأن الشرعية امتياز وليس مسؤولية، وأول هذه المسؤولية وحدة الشعب والدفاع عن سلامته وكرامته وحقه في البقاء على أرض وطنه. إن الشرعية وفي ظل غياب الانتخابات تتموضع فقط بين شرعية المقاومة أو شرعية الاجماع الوطني، ولا مكان لشرعية الرهان على الآخرين واستجداء الفتات .
هزيمة اسرائيل الأخلاقية، وانكشاف ظهرها أمام شعوب العالم، جعلها عبئاً سياسياً وأخلاقياً وعسكرياً حتى لأقرب حلفائها، فالولايات المتحدة و أوروبا التي سارعت منذ السابع من أكتوبر لنجدة اسرائيل من هزيمتها، لم تحصد بهذا الحصان الأعرج سوى الخيبة وعار المجازر ضد الأطفال والنساء التي ستظل تلاحقها داخل بلدانها وفي كل مكان ، فقد بدأت تهتز عروشها، ولم يعد الرأي العام في هذه الدول يقبل بمقولات النفاق “تجنب قتل المدنيين” أو ” تقليل القتل”، فكلاهما تشريع للقتل والاحتلال . فالعدوان يستهدف أساساً الوجود الفلسطيني و حياة المدنيين . نعم لم يعد الرأي العام في الولايات المتحدة يقبل بأقل من وقف الحرب العدوانية بصورة كاملة، بل، وبعد أن كشفت دموية الحرب زيف الرواية الصهيونية التي طالما احتكرت الرأي العام ، فلم يعد مقبولاً لدي شعوب الكون بأقل من انهاء الاحتلال وتمكين الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم التي هجِّروا منها وممارسة حقهم الطبيعي في تقرير مصيرهم على أرض وطنهم كباقي شعوب الأرض، وهم الأجدر به، وهذا ما يؤكده كفاح مايزيد على مئة عام رغم العدوان والتواطؤ والخذلان وازدواجية المعايير . كما أن هناك ملامح صحوة كونية ضد نظام الاستبداد الاستعماري وجذوره العنصرية التي تميز بين شعب وآخر .
عشية زيارة وفد من البيت الأبيض للمنطقة، أطلقت نائبة الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس مواقف مشجعة، إزاء الحقوق الوطنية الفلسطينية، والتي ربما تعكس تبايناً في الرأي داخل البيت الأبيض أو توزيعاً للأدوار، وعلى مدى اقتراب الموقف الأمريكي من الوقف الفوري للحرب، يجب أن ينظر لأي من هذين الاحتمالين، وبحيث يكون اليوم التالي للحرب البدء بخطة واضحة لانهاء الاحتلال، وازالة كل العراقيل التي تمكن شعبنا من اعادة بناء وتوحيد مؤسساته الوطنية الجامعة تمهيداً لاجراء انتخابات لبرلمان دولة فلسطين المستقلة وبسط سيادتها بجلاء قوات الاحتلال ومنظومته الاستيطانية عنها.
نقطة الضعف الأساسية والخطيرة التي تواجهنا، وقد تعصف بنا جميعاً ، وبما يمليه ذلك علينا جميعاً التصدي الوطني لها دون حسابات فئوية ضيقة، تتمثل في عدم استخلاص عبر خطورة ومأساوية الضعف الناجم عن الانقسام المستمر، والذي بدونه لم يكن نتانياهو وعصابته الاجرامية قادراً على المضي بخطة الضم والتوسع الاستيطاني والقتل اليومي في الضفة، بل فإنه لم يكن ليجرؤ على الايغال في دم أطفالنا ونسائنا وأهلنا في القطاع. لقد بات معلوماً أنه اذا تمكنت عصابة الحرب من تنفيذ خطتها في غزة، فإن ما يسمى باليوم التالي لن يكون سوى تهجير أهلنا في الضفة وليس أي شئ آخر، فهنا أطماعهم التوسعية ومشروعهم التوراتي وليس في غزة .
غزة لن تصمد بالكلام والمواقف اللفظية…غزة ستصمد بمدى التحام شعبنا كله، وفي مقدمته قيادة موحدة في اطار مؤسسات الوطنية الجامعة التي لن تستقيم شرعيتها إلا بانضمام كافة القوى والتيارات الوطنية في اطارها لتصبح منظمة التحرير فعلاً لا قولاً الممثل الشرعي الوحيد وقائدة نضالنا الوطني من أجل انهاء الاحتلال وانتزاع الحرية والاستقلال، و دون ذلك فسنؤكل كما أُكل الثور الأبيض أو الأسود لا فرق .