حال الاحتلال دون اكتمال التوأمين الموسيقيين المؤسّسين لفرقة “أُبَيْدر”، بمنع دخول الفنان أُبيّ البيطار، ليعزف رفيق دربه بيدر أبو نصّار، للمرّة الأولى، من دونه منذ بدآ العزف سويّاً في سن العاشرة، بينما صهر رفاقهما فلسطين في ثقافات الشعوب موسيقى وأغنيات انسابت دموعاً على خشبة مسرح قصر رام الله الثقافي، في افتتاح مهرجان فلسطين الدولي للموسيقى والرقص في دورته الثانية والعشرين للعام 2023، مساء أول من أمس، كما تسللت إلى وجناتهم، فهم يغنّون الوطن على قطعة منه، يحقّقون العودة، ولو لبعض الوقت وعلى بعض الجغرافيا، وإن بقي مقعد أبيّ فارغاً يحمل اسمه دليلاً على إصرار الفرقة على المضي قدماً، والتصدي لمحاولات الاحتلال بمحاربة أيّ فرح فلسطيني، بمزيد من الغناء للأرض، وأهلها، والشهداء الذين عطروا ترابها بأحمرهم.
والفرقة التي اسمها مزيج من اسمَي مؤسّسَيْها أبيّ البيطار وبيدر أبو نصّار، وولدا في ذات اليوم وذات المستشفى، تحمل مشروعاً فنيّاً يهدف إلى استدامة الشعر الأندلسي العربي في إطار موسيقى الفلامنغو، إذ تعمل في المساحات الفنيّة بين الحضارات عبر تسليط الضوء على التقاطعات الموسيقية فيما بينها، ومن خلال إظهار قوّة الثقافة الموسيقية الأندلسية، وتأسست في العام 2009، وتضم فنّانين من فلسطين والأردن وإسبانيا والسويد، وسجّلت العديد من المؤلفات الموسيقية، كما عملت على التأليف والتوزيع الموسيقي لعدد من الفنانين العرب، فيما فاز ألبوم الفرقة الموسوم بـ”إلى قرطبة” بالميدالية الذهبية في جوائز الموسيقى العالمية العام الماضي.
وقدّم أبو نصّار ورفاقه مقطوعة موسيقية حملت اسم “فلسطين” قدموا من خلالها مقاربة جديدة لقصيدة الشاعر الفلسطيني القدير إبراهيم طوقان “الفدائي”، التي اشتهرت كمقدمة لمسلسل “التغريبة الفلسطينية”، عبر تلحينها على أنغام “الفلامنغو” ورقصاتها الشهيرة، في تلويحة محبة جديدة لكل المقاومين، حيث بقي المطلع “لا تسل عن سلامته روحه فوق راحته.. بدّلته همومه كفناً من وسادته”، ليمتزج العزف والغناء والرقص بدموع المغنين والموسيقيّين الفلسطينيين تحديداً، التي سالت على وجناتهم تأثراً بالحالة الفردية لدى كل منهم، والجمعية لهم كفريق، قبل أن تتسلل إلى دواخل الحضور وعلى وجناتهم أيضاً، لكون كل مقطع موسيقي فيه يعبّر عن نكبات فلسطين المتواصلة، وعلى كامل جغرافيتها مقطعة الأوصال، أو في دواخل الفلسطينيين في المنافي.
أما أغنية “اعتراف”، فهي من كلمات عصام أبو نصّار والد بيدر، وكتبها خصيصاً لمعشوقته التي باتت زوجته وأم بيدر، هي ابنة نابلس المدينة وهو ابن ريفها، وما رافق علاقتهما من معوقات اجتماعية ومادية، وفي مرحلة لاحقة سياسية، مع أنها أصرّت على الارتباط به رغم كل ظروفه الصعبة، فعبّر عن شيء من حكايتهما وحواراتهما بهذه القصيدة التي كتبها لها من داخل المعتقل، وقرّر الابن تحويلها إلى أغنية لتخليدها، وجاء في مطلعها: “عرَفتُكِ هَكَذا صُدْفَة ألِفْتُكِ دُوْنَ أن أَدرِي، فَبِتِّ اليَوْمَ بِي كَلِفَة وَحُبُّكِ فِي دَمِيْ يَسْرِي.. فَكَمْ أَسمَعْتِنِي شِعْراً وَكَمْ أَهدَيْتِنِي عَنْبَر، وَقُلتِ كَتَمْتَهُ دَهْراً وَفِي تِشْرِيْنَ قَدْ زَهَّر”، وفي مقطع آخر: “وَقُلتُ نَعِيْشُ يا حُبِّي على كِسَرٍ مِنَ الخُبْزِ، وَمَوَّالٍ على دَرْبِي طَعامٌ لِلدُنا يَجْزِي.. وَقُلتُ أعِيْشُ في خَيْمَة وإنْ عَزَّتْ فَفِي كَهْفِ، أَجُوْبُ الأَرضَ مُبْتَسِمَة وَكَفُّكَ تَحْتَضِنُ كَفِّي.. أُحِبُكَ قِصَّةً كُتِبَتْ وما أَبْقَتْ لِرَاوِيْها، مِداداً حِيْنَ ألَّفَها ولا القِرْطاسُ يَكْفِيها”.
وعلاوة على المقطوعات التي أهدتها الفرقة إلى أُبيّ الحاضر الغائب، قدمت “أُبَيْدر” أغنية عرس الشهيد من أشعار السورية سميّا صالح، وألّفها بيدر، ولحنّت على النمط الإيقاع “استغريا” المرتبط بموسيقى الفلامنغو الحزينة نسبيّاً.
ولكون الفرقة تسعى من بين أهدافها إلى الحفاظ على ألق اللغة العربية الفصيحة، التي يرى بيدر أبو نصّار أنها مليئة بالكنوز، كانت ثمة أغنيات من الشعر الأندلسي كأغنية “شمس النهار” من كلمات الشاعر صفي الدين الحلّي، و”كما تشاء” للشاعر ابن زيدون.
وكان لافتاً تلك المغناة التي حملت اسم “المثقف المشتبك” إلى روح الشهيد باسل الأعرج، وكتبها صديقه الذي هو شقيق بيدر، وكانت محط تفاعل كبير من جمهور المهرجان في أولى أمسياته.
وختمت “أُبَيْدر” أمسيتها التاريخية على أرض فلسطين، لأعضاء فرقتها وللحضور، بمقطوعة وأغنية “سلام أيها الطيف الحبيب”، بينما بقيت عينا بيدر وعيون العازفين والمغنين وراقصة “الفلامنغو” المبدعة فيرونيكا ريفيرتي، والحضور الذي غصّت به قاعة قصر رام الله الثقافي، على المقعد الفارغ والاسم المثبت عليه “أُبيّ البيطار”.