لم نكن بحاجة إلى إبادة شعب كامل حتى يثبت التاريخ انعكاسات العقل الإسرائيلي المتوتر ومدى خطورته على السلم العالمي، ولم نكن بحاجة إلى حرب مدمرة تقدم إسرائيل فيها ما لديها من أداء معاكس للقيم البشرية بل نقيضاً لها، وهنا لا تبدو الأزمة لدى العقل المختل نفسه بل لدى من مهدوا له الطريق لكل تلك الجرائم ولدى من يساعدونه على ارتكابها ولا يساعدونه على أن يكون سوياً ودون أدنى محاولة لعلاجه، وأولهم الولايات المتحدة الأميركية التي احتكرت الإشراف على صراعات المنطقة لتعطينا كل هذا الدم والجنون.
ذهب العقل المريض حد القيام باغتيال الضيف الأبرز لدى إيران في قلب عاصمتها هل هناك من عاقل أو سوي يمكن أن يفعل ذلك ؟ كيف قبلت الولايات المتحدة أن يحدث هذا ؟ ألا تعرف أن ذلك يمكن أن يقود لحرب إقليمية ؟ ها هي المنطقة تقف على حافة الهاوية وقد تحترق … كل ذلك لأن دولة مختلة ترفض أن تكون دولة عاقلة تقف خلف مغامراتها دولة عظمى، هكذا يتحرك العالم وهكذا تبدأ الحروب فلم تكن الحرب العالمية الأولى تحتاج إلى أكثر من رصاصة في قلب ولي عهد النمسا.
لمن يدرسون التاريخ اليهودي الطويل يعرفون أن هناك عقدة نفسية أصبحت جزءا من الهوية الإسرائيلية ومحرك كل سياساتها؛ عقدة الخوف التي كرسها الواقع والأسطورة وحين تتسلح الأسطورة بقنبلة نووية على الدنيا السلام، وتتساءل الدول العاقلة عما يحدث في المنطقة وجذور الأزمة وتدعي استعصاء الحل هذا ليس أكثر من التعامي عن الواقع وها هو العالم كله يدفع الثمن.
الولايات المتحدة تتحرك بأساطيلها وأوروبا تنجر رغماً عنها للدفاع عن مغامرات الجنون، ولا عاقل يقول كفى إلا ذلك الصوت اليهودي القادم من بعيد، نقصد بيرني ساندرز لأنه ابن الحالة يعرف تماماً أين يقف.
حين اجتاحت إسرائيل أراضي عربية بعد حرب حزيران كانت قيادتها تحتفل بما سقط من أيديها من مساحات، كان وحده رئيس الأركان الشاب إسحق رابين في نهاية الثلاثينيات من عمره يقف وحيداً وعندما تم سؤاله عن عزلته في الاحتفال قال: “هذه أراضٍ عربية سنعيدها لهم عندما نعقد معهم سلاماً فلماذا الفرح ؟ “كان قبله دافيد بن غوريون يضع معادلة الوجود في المنطقة بنظرية “الأرض مقابل السلام” وكان رابين تلميذه المخلص.
توفرت لإسرائيل فرصة تاريخية في ظروف قاهرة بالنسبة للإقليم والفلسطينيين بعد حرب الخليج الأولى اضطروا فيها لتقديم تنازل هائل بالاكتفاء بما يعادل خُمس فلسطين التاريخية التي تم الاستيلاء عليها بغير وجه حق وطرد سكانها ولم يوافق كثير من الفلسطينيين على هذا العرض ولكن إسرائيل قتلت الرجل الوحيد الذي كان بإمكانه تمرير هذا التنازل التاريخي فأضاعت فرصتها لتدخل المنطقة بعد محاولة التسوية لثلاثة عقود في بحر من الدم تموله الولايات المتحدة التي صادقت على قتل عرفات.
ومن المنطق أيضاً أن إسرائيل لم يكن بإمكانها اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس الرجل الأكثر مرونة ووضع الإقليم على حافة الهاوية دون استئذان من سيتحمل مسؤولية الحريق في واشنطن.
رفضت إسرائيل كل مساعي إنهاء الحروب وعاشت على السيف كما يقول أحد حكماء إسرائيل إبراهيم بورغ الرئيس العابر للكنيست، وعلى السيف تصحو تجد نفسها أمام غضب فلسطيني في أكتوبر ومحيط إقليمي يتحفز لضربها من كل الجهات بعد ثلاثة أرباع القرن على قيامها تهتز الفكرة ويرحل من يرحل وتطلب من مواطنيها البقاء قريباً من الملاجئ “فمن عاش بالسيف يموت به” تلك حكمة التاريخ التي ترددها الأجيال.
ضربت إسرائيل ضرباتها لكنها لم تفهم بعد تحولات العالم وتغيرات موازين القوى والتراجع في قوة ردعها، فهي يتم ضربها يومياً دون خوف ولم تدرك أن خصومها يستفيدون يومياً وأن التكنولوجيا تكاد تنهي الفوارق بين مستويات القوة وأنها أصبحت ملكاً للجميع، وإلا فكيف تصل كل تلك الصواريخ الدقيقة من لبنان إلى المواقع الإسرائيلية بتلك الدقة ؟ أليست هي من وضعت أعمدة الأمن القومي في نهاية الأربعينيات لتقول بحتمية نقل المعارك خارج الدولة لأن مساحتها لا تحتمل ؟ وبحروب ساحقة قصيرة لأن الدولة واقتصادها ومجتمعها لا يحتمل ؟ ما الذي يحدث ؟ لا أحد يراجع هناك لأن العقل المفتون بالقوة أعمى من أن يرى الأشياء لأن رؤيتها على حقيقتها تفترض سلوكاً مغايراً وهذا يفعله الأسوياء.
لأي محايد ولقارئ جيد لتاريخ المنطقة وليس فلسطينياً من أولياء الدم يمكنه ببساطة ملاحظة السياسات الإسرائيلية والوصول لنتيجة واحدة، وهي أن إسرائيل تشكل خطراً على الإقليم والعالم وخطراً على الأمن والسلام الدوليين وأبعد من ذلك خطراً على النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية وخطراً على العلاقات الدولية والأخلاق والقيم عندما تقوم بهذه الإبادة في القرن الحادي والعشرين فهي تعطي رخصة لمن سيقوم بإبادة قادمة، إيران تهدد بالانتقام وحزب الله يهدد بالضرب في العمق وإسرائيل تنتظر بقلق أين ستصل الأمور؟ في الحريق لا أحد يعرف النهايات لكننا نعرف البدايات، إسرائيل رفضت كل العروض فعليها أن تتحمل النتائج ولتتحمل معها واشنطن أيضاً ..!