هناك من ينظر إلى الأزمة التي تعصف بإسرائيل على أنها اجتماعية صرف. وفي المقابل هناك من يعتبرها كذلك، لكنها ناجمة بالأساس عن أزمة إسرائيل السياسية التي رافقتها منذ تأسيسها، بسبب ما انطوى عليه هذا التأسيس من جرائم وآثام. ومع ذلك، يتفق الطرفان على أنها مرتبطة بما يعتور “ديمقراطية إسرائيل” من شوائب. ومهما تكن هذه الشوائب، يجري التركيز حاليًا، أكثر من أي شيء، على اثنتين، يمكن أيضًا ملاحظة توافق بشأنهما بين جلّ المنظمات المعنيّة بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية داخل إسرائيل، مثلما يستشف من جديد الأدبيات المنشورة.
لدى الكلام عن الشائبة الأولى، يُشار تحديدًا إلى أن من المتعارف عليه التمييز بين مفهومين للديمقراطية: الشكلي والجوهري. وإسرائيل تبنّت المفهوم الشكليّ منذ إقامتها. وبحسبه، الديمقراطيّة نظامٌ يقترع فيه جميع المواطنين من سن معيّنة بحريّة، مرّة كل بضعة أعوام، ليختاروا ممثّليهم في السلطة. وفي الفترات بين دورة انتخابات وأخرى يدير هؤلاء الممثلون شؤون الدولة بناء على حسم الأغلبيّة.
وحكم الأغلبيّة هو القيمة العليا في الديمقراطيّة الشكليّة المحدودة. أمّا حقوق الإنسان (ولا سيما التي تخصّ الأقلّيّات)، فتتعلّق إلى مدى بعيد بحسن نيّات الأغلبيّة. ولكن الحفاظ على المبادئ الشكليّة وحدها، كما تؤكد تلك المنظمات، لا يضمن وجود الديمقراطيّة الجوهريّة، فمفهوم الأخيرة نما وتَبَلْوَرَ من وجهة النظر التي تقول إنّ الدولة قائمة من أجل الناس الذين يعيشون فيها، لا العكس. وتنصّ وجهة النظر هذه على أنّ القاعدة الأخلاقيّة للنظام الديمقراطيّ مشروطةٌ بتحقيق قيم حقوق الإنسان والمواطن، من خلال الاعتراف بقيمة الإنسان وكرامته، وبكونه مخلوقًا حرًّا، وبالمساواة بين بني البشر، وبأنّ لكل إنسان حقوقًا أساسيّة، لكونه إنسانًا. ويتعامل المنهج الجوهريّ مع الذود عن حقوق الإنسان كعنصر أساسيّ في النظام الديمقراطيّ. وبحسب هذا التوجّه، الصراعات بين الذَوْد عن الحقوق وحسم الأغلبية تعبير طبيعيّ وجوهريّ عن عنصرين ديمقراطيّين حيويّين.
الشائبة الثانية هي التي يُشار إليها منذ نحو عقد، وعلى وجه الدقّة بعد الحرب على غزة عام 2014، ومؤدّاها أن ما يوصف بأنه “المعسكر ما بعد الديمقراطي” هو في الوقت الحالي أقوى معسكر سياسي في إسرائيل، ومن المتوقّع أن يزداد قوّة في المستقبل. وهو مُكوّن أساسًا من التيار الديني الصهيوني المتزمّت، ومن أنصار الاستبداد الذين يرون حقوق الإنسان المواطن مضايقة، والعنصرية قيمة مباركة. ويمكن أن نضيف أن واقع إسرائيل قبل سيطرة هذا المعسكر على كل مناحي الحياة السياسية فيها لم يكن أكثر ديمقراطية في ظل نظامها الديمقراطي الشكلي. وعلى الرغم من ذلك، أمسى الواقع الحالي أقلّ ديمقراطية حتى مما كان قبلًا. وهو واقع يقترن أيضًا ببروز كثير من سمات نظام الحكم الفاشي على غرار ما يلي: نزعة قومية متطرّفة؛ استهتار بقيمة حقوق الإنسان؛ تحديد أعداء داخليين وأكباش فداء؛ نزعة عسكرة طاغية؛ وسائل إعلام مجنّدة ومهيمن عليها وامتثالية؛ هوس أمن الدولة؛ علاقة رؤوس الأموال بالسلطة؛ إضعاف المنظمات العمالية؛ قمع الحريات الأكاديمية؛ فقدان الثقة بسلطات الحكم وازدياد التعلّق بالزعيم الأوحد… إلخ.
ولم ينشأ هذا الواقع بين عشية وضحاها، إنما هو ثمرة انقلاب عمل اليمين الإسرائيلي الأيديولوجي على الدفع به منذ عودة حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو إلى سدّة الحكم عام 2009. وتم إنجاز المراحل الأخطر منه في نهاية عام 2010.
وجرى تحديد غاية هذا الانقلاب، ضمن أشياء أخرى، في منع فلول “اليسار الإسرائيلي” من أن تُعرب عن آراء مغايرة، وتم هذا المنع بداية على المستوى العام ومن ثم انتقل إلى المستوى التشريعي. ولعل أكثر ما سعى اليمين في إسرائيل نحوه هو كبح حتى الجدل الديمقراطي بشأن السياسة المطلوبة إزاء حلّ الصراع، والتجنّد العام من حول سياسة إدامة الصراع بما يخدم المصالح الإسرائيلية وحدها.