اغتيال جيش الاحتلال الإسرائيلي لمراسلة الجزيرة الإخبارية، الصحافية الفلسطينية المقدسية شيرين أبو عاقلة، والذي تم بدم بارد وبشكل مباشر ومتعمد، لم يكن عملية القتل الوحيدة التي تمارسها دولة إسرائيل بحق صحافي فلسطيني أو غيره، ولا بحق مدني أعزل فلسطيني أو غير فلسطيني، فقد سبق لإسرائيل أن اغتالت وقتلت خارج القانون، وبشكل متعمد ومتواصل على خلفية قومية، أو بحق من يقاوم احتلالها الاستعماري، سواء بالسلاح أو الكلمة أو الصورة، المئات من الفلسطينيين وغيرهم من المتضامنين الأجانب، وقد طالت اغتيالاتها وعمليات قتلها المتعمد والمقصود، الكتاب والأدباء، الفنانين، الصحافيين، الأطباء والممرضين، كذلك المتضامنين الأجانب، وطبعا الأطفال والنساء والشيوخ، في سياسة متواصلة تعبر عن طبيعة تلك الدولة الفاشية الاستعمارية، التي تضغط على الزناد بكل سهولة ويسر، حين يتعلق الأمر بالمواطن الفلسطيني الذي تراه بعين العنصرية القبيحة، جيدا حين يكون ميتا، كما قالت يوما واحدة من قادة إسرائيل، رئيسة وزرائها السابقة غولدا مائير.
وإسرائيل لا تختلف كثيرا عن كل الدول التي كانت تستعمر دولا وتقهر شعوبا أخرى، لكن كل دول العالم الاستعمارية تحررت من نزعتها العنصرية ومن رغبتها في القتل حين خرجت من أرض الغير، ولم يبقَ في العالم منذ الحرب العالمية الثانية على هذه الصفة المقيتة سوى إسرائيل، لذا فإن كراهية العالم بأسره لها، وليس الفلسطينيين فقط تتزايد يوما بعد يوم، وفي حقيقة الأمر، أن إسرائيل لا تجد من يحبها من شعوب الدنيا، سوى أولا بقايا الحالمين بعودة الزمان إلى عصور الاستعمار والتمييز العنصري، وثانيا سوى أنظمة الحكم المستبدة والحكام الأفراد الذين يتربعون على عروش تلك الأنظمة، فيما معظم دول وشعوب العالم تضيق بها ذرعا.
وكل عام حين تحل ذكرى النكبة على الفلسطينيين، تقوم إسرائيل بالمقابل بالاحتفال بما تسميه استقلالها، وربما كانت هي الدولة الوحيدة التي تسمي نكبة الآخرين استقلالا لها، ذلك أنها نشأت أو أقيمت على أنقاض الحق الفلسطيني في أرضه وحريته وحقه في الاستقلال، ورغم أن العالم الذي كان يعيش وطأة الشعور بذنب المحرقة قد تعاطف مع إسرائيل بذلك الدافع فقط، وليس لسبب أن لها حقا تاريخيا أو حقيقيا في أرض فلسطين، إلا أنه اشترط اعترافه بها، أن تقوم دولة فلسطين إلى جوارها، وفق قرار التقسيم المقر من قبل منظمة الأمم المتحدة بعد سنوات قليلة من إنشاء المنظمة وذلك العام 1947، لكن إسرائيل أعلنت «استقلالها» بعد أن تجاوزت حدود التقسيم، باحتلالها لنحو نصف أرض دولة فلسطين.
أي أن إسرائيل منذ أول يوم أعلنت فيه نشأت كدولة احتلال وفق المنطق الدولي وليس وفق المنطق الفلسطيني أو العربي الذي كان لا يقر بحقها ولا في شبر واحد من أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، ثم لم ينقض سوى أقل من عشرين عاما وكانت تحتل كل ما تبقى من أرض دولة فلسطين، وتبقى هكذا دولة احتلال خلال 55 سنة أخرى، وبالتحديد كدولة تحتل ما يعادل مساحتها، أي أرضها المقرة وفق قرار التقسيم وأرض دولة فلسطين التي كانت تساوي أرضها حسب ذلك القرار المذكور.
كيف يمكن لدولة عاشت حياتها كلها كدولة تحتل شعبا آخر أن تكون دولة طبيعية، أو سوية ؟ لا يمكن إذا أن تكون دولة إسرائيل، كدولة بمجموعها وكأفراد مختلفين إلا دولة قهر قومي، دولة استعمار تظل تمارس العدوان على غيرها كل الوقت، وتمارس إرهاب الدولة بكل ما يتضمنه من أعمال القتل والاعتقال والقهر والسطو، بحيث يتحول أفراد جيشها وشرطتها إلى قتلة ولصوص، بل صار مع ذلك قادتها وساستها عبارة عن محرضي قتل وكذابين وأراجوزات سياسة، ومع مرور الوقت صار معظم من يقع على عاتقه تنفيذ السياسة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، قاتلا أو مشروع قاتل، وتحولت عناصر شرطتها إلى أدوات قهر وصار جنودها قتلة، فيما تطرفت غالبية مواطني الدولة.
أربعة وسبعون عاما، تؤكد أن إسرائيل لم تقم من أجل أن تكون دولة طبيعية تعيش بسلام مع المحيط العربي/الإسلامي في الشرق الأوسط، لأن المفتاح لذلك يشترط أن تتعايش أولا مع الشعب الفلسطيني، الجار الأول، ورغم أنها حاولت بكل الطرق الفاشية ومنذ ما قبل العام 1948، بعقد المجازر، وشن الحروب المتواصلة، أن تفرض على الأرض مقولتها الكاذبة بأنها قامت لتمنح شعبا بلا أرض، أرضا بلا شعب، فإن النتيجة اليوم هي أن نصف الشعب الفلسطيني ما زال صامدا ما بين النهر والبحر، فيما نصفه الآخر ما زال يحلم بالعودة، فهل يعقل أن تظل إسرائيل تتجاهل وجود شعب فلسطيني ما زال مقيما على أرضه ويساوي عدده تعداد سكانها الذين جلبتهم من كل أنحاء الدنيا، فيما لا تعترف بحق الفلسطيني، المطرود من وطنه منذ سبعين عاماً، بالعودة ؟
ثم ها هو العالم بأسره، بما فيه نصف الإسرائيليين في لحظة ما، أي لحظة ما بعد الانتفاضة الأولى، يقر بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، بينما ترفض إسرائيل عمليا الإقرار بهذا الحق، رغم أنه يحررها من كونها دولة احتلال وينتقل بها من دائرة الدولة التي تمارس الإرهاب إلى الدولة المدنية الطبيعية، وذلك بسبب تحكم اليمين والتطرف الديني بها منذ عقود خلت.
كثير من التقديرات يتنبأ بزوال إسرائيل، بناء على معادلات اللاهوت، وآخرها كان تحذير إيهود باراك قبل أيام، لكننا نقول إن بقاء إسرائيل أو استمرارها هكذا كدولة احتلال ودولة تمارس العنصرية القومية، لن يستمر، بل على الأغلب بعد سنوات قليلة سيفرض عليها إنهاء احتلالها لأرض دولة فلسطين، وكذلك ستواجه كفاحا داخليا وخارجيا ضد عنصريتها، بما يفكك منظومتها المتعاكسة مع عصر ما بعد الاستعمار، وإذا كانت الأحزاب المتحكمة بإسرائيل اليوم تؤمن بالماضي فإن الشعب الفلسطيني يؤمن بالمستقبل، وإذا كانت إسرائيل تعتمد في بقائها كما هي عليه اليوم على قوة القهر وعلى قوتها العسكرية، وعلى ما تبقى من قوى تنتمي لعصر الحرب الباردة تدعم وجودها، فإن الشعب الفلسطيني يعتمد على تحرر البشرية من نزعة القهر والتمييز، بل وتقدمها نحو العدالة والمساواة بين البشر، وإذا كان لإسرائيل اليهودية الماضي، فإن المستقبل لفلسطين الحرة والديمقراطية والدولة المدنية.