إنها إسرائيل.. نسفت بيتي وجرفت مكتبتي وزيتوني..

وأبدأ فأقول إن هذه مأساة قرابة 90% من عمران قطاع غزة وبيئته الطبيعية مثلما يعلم القريب والبعيد في العالم . وأبدأ باليت . قصفت طائرة في يناير الجانب الشرقي من الدور الثاني ، وأحدثت في سطحه فتحة بقطر متر ، ونفذت القذيفة إلى سطح الدور الأول محدثة فتحة ثانية بذات الحجم . وبقي صالحا للمعيشة فيه ولو مؤقتا على أمل سد الفتحتين .
وعادت في يونيو  وقصفت جويا نفس الجزء ، فانهار سطحه ، ونفذت إحدى القذائف إلى غرفة في الدور الأول ، ولبث مع كل ذلك التدمير مناسبا للعيش فيه مؤقتا . وفي الهجوم الأخير عى المنطقة في التاسع من أغسطس المنقضي نسفت قوة برية سائر البيت مع أكثرية بيوت الحي ، وجرفت مكتبتي المنفصلة عن البيت ، و 29 شجرة زيتون ، وسبع شجرات حمضيات ، وأربع شجرات رمان ، ونخلتين ، وخمس شجرات تين مع ما جرفت لجيراننا من زيتون جنوبي زيتوننا وشرقيه .
وهذا ثاني تجريف لزيتوننا وزيتون جيراننا . جرفته في  2004 قبل انسحابها في 2005؛ في جريمة سمتها “الوردة البيضاء” ، ولم نعلم يومذاك سببا مباشرا للتجريف . ” الوردة البيضاء ” ! إنهم يزيفون لجرائمهم البشعة أسماء شعرية رقيقة في انفصال كامل بين هذه الجرائم وهذه الأسماء . وغرسنا الزيتون وسواه من الشجر ثانية ، فعادوا ثانية لجريمة قتل ما غرسناه مع البشر والحجر بيوتا ومساجد ومدارس ومستشفيات وجامعات وكل صنف من العمران تقوم به حياة الإنسان والطير والحيوان .

ونتوقف شيئا عند المكتبة . إنها _ مثلما قلت في مقال سابق في ” رأي اليوم ” الحبيبة إلى قلوبنا إدارة وموقعا_ تقدر بحوالي 80 ألف دولار ، وفيها عيون الكتب العربية والإنجليزية والفرنسية ، وتحتويها خمس خزائن كبيرة ، وأقرأ وأكتب فيها ، وخلف غرفتيها زيتونة كبيرة سلمت من التجريف الأول وطالها التجريف الثاني ، وتينتان . وبدأت مع أبنائي التنقيب عن الكتب بين الحجارة والتراب ، ورحمنا الله _ تعالى _ فأخرجنا وما فتئنا نخرج بين وقت وآخر مجموعات منها  بعضها في حال حسنة ، وبعضها معجون ممزق ، وبعضها فقد غلافه أو أحد جزأي هذا الغلاف .
والكتب العديدة المجلدات وجدنا بعض مجلداتها مثل ” لسان العرب ” وسواه من الكتب المتصفة بهذه الصفة . وكانت رحمة ربي  بي عظيمة حين وجدت كل مجلدات ” الموسوعة العربية العالمية ” الثلاثين ، ولم يكن هذا نصيب موسوعة ” كاكستون ” البريطانية التي وجدت عشرة من مجلداتها العشرين ، ولما كان في المكتبة أكثر من معجم لكل لغة فإنني وجدت حتى الآن ما يكفي من هذه المعاجم . والتنقيب يتواصل في سباق محموم مع اقتراب المطر وما قد يأتي به من سيول تتلف الذي ما زال مفقودا من الكتب .
إبادة المكتبات والمؤسسات العلمية والتعليمية رذيلة مغولية تجتهد إسرائيل في منافسة المغول فيها ، ويشهد لها أعداؤها وأصدقاؤها أنها تفوقت على المغول فيها ونحتهم جانبا ، والرذيلة أولى بأهلها نسبا . ومن توافيق الله عثوري بالحاسوب والطابعة سليمين ، وإنما بطارية الحاسوب زادت ضعفا فوق ما كانت عليه من ضعف قبل الحرب ، وكنت أنوي استبدالها ، وفي الحرب الآن لو وجود للبطاريات .ولا تستوعب البطارية الحالية سوى طاقة تغطي 40 دقيقة كتابة.
وكتابة المقال تستدعي شحنه مرتين من  خلال الطاقة الشمسية ، وألواح هذه الطاقة أضحت نادرة عقب تدميرها مع ما دمر من البيوت . والمشكلة الكبرى  إيجاد مكان لما سلم حتى  الآن من الكتب، ويقدر ب 55  % مما كان في المكتبة، وإيماني مطلق بأن الله _ تبارك _ سيجعل لي مخرجا من حيث لا أحتسب، وعلينا الجهد وعلى الله _ عز قدره _ الجَد ( الحظ والتوفيق ) . وأقعد صبحا وأصيلا فوق حجر من حجارة بيتي المنسوف وأقرأ في ما أحب أن أقرأه من الكتب التي نجت من الهلاك ومن الضياع تحت التراب والحجارة . إنه المقعد الذي ” يروي الخبر ” بعبارة الشاعر الإنجليزي كاوبر في قصيدته التي رثى فيها غابة الحور، ويستهلها متحسرا: “غابة الحور تهاوت فوداعا للظلال!”، والمقعد الذي تحدث عنه جزء من إحدى أشجارها . أجلس على الحجر وفي القلب نار أسى ونقمة على عدونا . كان منذ حين قريب جزءا من بيت لأسرة متآلفة مطمئنة. ومن عادتي قبل الحرب أن أقرأ أحيانا خارج المكتبة بين شجر الزيتون متخذا كرسيا .
وإذ أعيش قرب أطلال بيتي وصور الأمس تتزاحم وتتوامض في خاطري أشعر شعورا عميقا صافيا بأن عدل الله _ جل قدره _ سينصفنا من عصابة القتل والتدمير والفجور، وقناعتي كبرى عاتية في أن هذه العصابة تعدو صوب أفولها، وهذا ما يبشرنا به قرآننا العظيم في آيات عديدات بينات، وهو ما يقول به أساطين الفكر والسياسة في الغرب نفسه خاصة إبان الحرب الحالية التي تعرت فيها إسرائيل على مطلق حقيقتها الشريرة المدمرة لها قبل أن تكون مدمرة لنا. وبان في الحرب كل وهنها الذاتي الغائر في عمقها والذي سعت لستره بضراوة عنفها في القتل والتخريب توهما من ذاتها وإيهاما للآخرين بأنها قوية عظيمة البأس، ورب استعراض قوة فضح ضعفا خالصا . وهذه حال إسرائيل الآن ، ولها توابعها من الأحوال المرعبة لها بعد توقف الحرب.
                                   ***
إلى الشهيد سماحة الشيخ حسن نصر الله :
شهيدا قُتِلتَ ، شهيدا رحلت = فبشراك عليا الجان الفساح
وبشرى القواتل نار الجحيم  = وخوف مقيم ، وفيض جراح
سيبقى وفاؤك تذكار مجدٍ   = ويبقى إباؤك نهج كفاح
 كاتب فلسطيني مقيم في غزة