بقلم اللواء المتقاعد: أحمد عيسى المدير العام السابق لمعهد فلسطين أبحاث الأمن القومي
يقول المفكر الإداري العظيم “بيتر إف دراكر” الذي يعتبر علم من أعلام الإدارة في عصر الحديث في كتابه الشهير (أفكار دراكر في الإدارة)، خاصة ما قاله في المذكرة الثانية والتي وردت تحت عنوان (استشراف المستقبل)، وكانت مكتبة جرير السعودية المعروفة قد نشرت الطبعة الأولى من الكتاب العام 2006، أن علماء الدراسات المستقبلية يقيسون نجاحاتهم بعدد الأشياء التي توقعوا حدوثها وحدثت بالفعل، ولم يحسبوا تلك الأشياء المهمة التي تحققت ولكنها لم تكن ضمن توقعاتهم.
ربما يتحقق كل ما يقوله مستشرفوا المستقبل، ولكنهم ربما يغفلون أهم الأشياء في الحقائق الواضحة الماثلة أمامهم، والأسوأ من ذلك أنهم قد لا يعيرونها أي اهتمام.
ويتابع دراكر نحن هنا لسنا بصدد الحديث عن الأخطاء التي تحدث عند توقع المستقبل، فالأشياء المهمة والمميزة دائما ما تكون نتيجة تغيرات في القيم، والمفاهيم والأهداف، أي أنها تكون في الأشياء التي يمكن استنتاجها وليس التنبؤ بها.
ويضيف دراكر، ولكن أهم عمل يمكن أن يقوم به مدير المؤسسة هو تحديد التغيرات التي تطرأ بالفعل، فالتحدي الأساسي الذي يواجه المجتمع بمجاليه الإقتصادي والسياسي هو إستغلال هذه التغيرات التي تطرأ بالفعل كفرص سانحة، فالشيئ المهم هو توقع المستقبل مما يحدث بالفعل ثم تنمية المناهج التي تمكنه من إدراك وتحليل هذه التغيرات.
ويختم دراكر مذكرته باقتراح إجراء عملي لمدراء المؤسسات التي تبتغي التقدم والترقي: حدد الاتجاهات الرئيسية التي تظهر بالفعل في السوق، واكتب ورقة عن احتمالية استمرار تلك الاتجاهات ومدى تأثيرها على حياتك ومؤسستك.
العالم من حولنا يتحول ويتغير وقد دفع هذا التغير البعض من الخبراء في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من اليهود الأمريكيين للقول “عام 2023: هو نقطة تحول لصالح فلسطين في السياسة الدولية” هذا عنوان مقالة للخبير في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لأكثر من 40 عام (ميخائيل بلتنيك) نشرت باللغة الإنجليزية على موقع موندويس الأمريكي يوم الجمعة الماضي الموافق 18/8/2023.
وقد بنى بلتنيك توقعه هذا تأسيساً على ثلاثة متغيرات، الأول منها يتعلق بحقيقة أن إسرائيل قد كشفت كدولة فصل عنصري “أبارتايد” الوسم الذي تزداد قناعة الراي العام العالمي بما في ذلك الرأي العام اليهودي في كل لحظة وكل يوم، ويستطرد بلتنيك قائلاً أن المظاهرات التي تحدث أسبوعيا في إسرائيل مطالبة بالديمقراطية ووقف الإنقلاب على المؤسسة القضائية، تؤكد أن إسرائيل هي دولة عنصرية، لا سيما وأنها تطالب بالديمقراطية لمواطنيها اليهود فقط، حيث لا تسمح للمواطنين الفلسطينيين بالصعود لمنصة الخطابة والمطالبة بحقوقهم.
وتجدر لإشارة في هذا الشأن لحقيقة أن إقتران إسم إسرائيل بالأبارتايد على الشبكة العنكبوتية يزيد عن 11 مليون مرة في الأسبوع الواحد طبقاً لموقع سيمراش (Semrush)، في حين أن عدد هذا الإقتران لم يتجاوز 50 مرة في الفترة الممتدة من العام 1948 حتى العام 2000 حسب مذكرة نشرتها مجلة تقييم إستراتيجي الصادرة عن معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي قبل سبع سنوات.
أما المتغير الثاني فيدور حول التغيرات الدراماتيكية الأخذة بالإزدياد على صعيد الحزب الديمقراطي ودعمه لإسرائيل، إذ تظهر تقارير أخرى أنه لم يبقى داعماً لإسرائيل في هرم قيادة الحزب، إلا رأس الهرم فقط أما قاعدته ووسطه فقد حسموا أمرهم نحو إسرائيل، ومن المتوقع أن يحسم هذا الأمر بالكامل لصالح الحق الفلسطيني خلال عقد من الزمان.
ويتعلق المتغير الثالث بصعود الصين ونهاية حقبة القطب الواحد، ومطالبتها أي الصين وشركائها من القوى الصاعدة لقيادة النظام العالمي برفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تجلى أيما تجلي في البيان الختامي لقمة بريكس قبل عدة ايام.
في الختام أجادل أن الشعب الفلسطيني لا يخفى عليه، لا سيما في هذه اللحظة من الزمن “أن العدل وحده لا يسير عجلات التاريخ”، كما قال شاعرنا العظيم محمود درويش في ثيقة إعلان إستقلال فلسطين العام 1988، ولا يخفى كذلك على حركة فتح صاحبة الوطنية الفلسطينية، وقيادتها وقد أعلنت قرارها بعقد مؤتمرها الثامن في نهاية العام الجاري، أن إستغلال واستثمار ما تنطوي عليه التغيرات في البيئة الإستراتيجية الفلسطينية من فرص تفرض عليها عدم إنتاج الماضي وإختيار المؤهلين الأكفاء القادرين على فهم وإدراك اللحظة والبناء على ما قاله (ميخائيل بلتنيك) في مقالته.