كتبت-إشراق أحمد:
تنتهز بسنت البدراوي أيةَ فرصة لرؤية تفاصيل الحياة في مصر فتصحب قريبتها أماني أبو زيد. إلى قلب ميدان التحرير، توجها هذه المرة للتعرف للتعرف على نحو 150 وجهًا جمعتهم “وسط البلد” في مكان واحد، داخل استوديو تصوير، وثقت ملامحهم عدسة واحدة لمصور فوتوفوغرافي عاش في القاهرة منذ الأربعينيات، فترك أرشيف ضخم من عشرات الصور لأهل المحروسة.
في 20 نوفمبر الماضي، افُتتح معرض van leo cairo “فان ليو القاهرة” بمقر الجامعة الأمريكية على أن يستمر إلى 10 ديسمبر الجاري. ذلك اليوم الذي بمروره يكون انقضى مائة عام على ميلاد ليفون ألكسندر بوياجيان الشير بفان ليو.
عام 1924 فر ألكسندر بأسرته من تركيا، مثل العديد من الأرمن نجا الأب وزوجته وأبنائه الثلاثة مما يحدث من مجازر، سكن مصر، فيما كان أصغر أولاده الصبية “ليفون” في الثالثة من عمره.
شب فان ليو في وسط القاهرة، ما كان شيء يبهره أكثر من الإضاءة وترويضها وتآلفها مع الظلال، لمعت عيناه لصور نجوم هوليود التي رأى بعضها على البطاقات البريدية حتى أنه انشغل بجمعها وهو طالب في المدرسة
الإرسالية الإنجيلية، تلك الحالة الدرامية التي تطل من الصور. كيف يلتقطها المصور، ماذا يفعل ليصبح لديه مثل تلك الصور؟
التحق فان ليو باستوديوهات تسمى فينوس، ثم انقطع ليدرس بالجامعة الأمريكية بعدما انهى الثانوية العامة، لكنه بعد عام واحد ترك الدراسة وعاد إلى الاستوديو ليعاود التدريب مرة أخرى. عرف فان ليو مكانه وما يهوى.
بعد ثلاثة أشهر من التدريب، قرر فان ليو أن يستقل، شجعه صديق ضابط بريطاني يدعى بول هاندز، وتعاون معه شقيقه الأكبر أنجيلو، وساعدهم والدهم بالسماح لهما باستخدام غرفة المعيشة لتصبح استوديو، وبإعطائهم
المال لشراء كاميرا (10×10)، تلك التي التقطت عشرات الوجوه في مسيرة المصور الأرمني الحافلة بالعديد من الشخصيات المشهورة وأهل مصر من عامة الشعب.
في يناير 1941 بدأت مسيرة فان ليو في استوديو “انجلو” مع شقيقه، ثم بعدها بنحو ستة أعوام استقل مرة أخرى بشراء استوديو يحمل اسم “مترو” في 7 شارع فؤاد (26 يوليو حاليًا”، ليصبح استوديو فان ليو لفن
التصوير، حينها وفقط حقق حلمه الذي استمر حتى انهى رحلته مع الكاميرا عام 2002.
في قاعة “فيوتشر” بمبنى الجامعة في التحرير، دخلت بسنت بصحبة أماني، ما إن التفتت إلى مجموعة الصور الحاملة لإمضاء فان ليو والمعلقة يسارًا، حتى توقفت أمام صورة لسيدة، صاحت الشابة “دي طنط رجاء”. دارت
بعينيها لتجد صورة أخرى لرجاء سراج، صديقة أسرتها، التي امتهنت التمثيل وعملت مساعدة للمصور الأرمني في بداية حياتها.
تسمرت بسنت أمام صورة رجاء لثوان، أخذت تسرد ما تعرف عنها لقريبتها أماني”شوفتها وكانت صديقة للعيلة لغاية وفاتها في 2008″، تفاجأت الشابة بمعرفتها لأحد الوجوه الموجودة بالمعرض، لكنها لم تكن المفاجأة الوحيدة.
قبل الذهاب للمعرض عرفت بسنت من أبيها “إنه اتصور عند فان ليو وهو في ثانوي”، كان ذلك بدافع من رجاء صديقة الأسرة، لكنها باتت ذكرى لا تنسى في حياة والد الشابة “لسه فاكر قد إيه كان شخص ودود واتكلم معاه وهو بيصوره”.
كان محظوظًا من يدخل استوديو المصور الأرمني الواقع في 26 يوليو بمنطقة وسط البلد كما علمت بسنت من والدها، أرادت الشابة ورفيقتها أماني الخمسينية العمر أن تلمسا تلك الحالة بزيارة المعرض، ولأجل أن يعيش الزائرون تجربة استوديو فان ليو عكفت علا سيف على عرض الصور.
منذ تسلمت علا مسؤولية أرشيف الجامعة الأمريكية عام 2006، ما إن ترى صورة للمصور الأرمني تعبر عن”التركيبة الاجتماعية للقاهرة، إلا وتضعها جانبًا وتقول “خليها للمعرض الكبير”، فمنذ عام 2012 وتقام معارض لفان
ليو، لكن هذا المعرض الأكبر كما تقول الأستاذة بالجامعة الأمريكية ل.
أرشيف كبير تركه المصور الأرمني “حوالي 50 ألف نيجاتيف بلا مبالغة اخترت منهم 150 بس” كما تقول علا، انتقت منها مسؤولة المعرض على مدار أشهر ما يتلائم مع الفكرة “فان ليو القاهرة”، رأت الأستاذة الجامعية أن
المصور الراحل لم يعرف وطنًا غير مصر “جه وهو عنده 3 سنين عاش واشتغل ومات في القاهرة. ووسط البلد رمزية المكان اللي ارتبط بيه ووثق للناس اللي عاشوا في زمنه”.
في المعرض، يستقبل الزائر صورة ميدان التحرير يمينًا وبجوارها فان ليو وتوقيعه الشهير على الصور، ويسارًا صورة التقطها للأهرامات. تتوزع الصور في أربعة أركان، تحرص علا على وصف كل منها باللوحة. تجذب ملامح
المشاهير والشخصيات العامة الأنظار في الحائط المقابل لباب الدخول.
رشدي أباظة، زبيدة ثروت، فريد الأطرش، محمد عبد الوهاب، محمد صبحي وسمير صبري في مقتبل العمر، داليدا في صورتها الشهيرة بفيلم اليوم السابع، وعميد الأدب العربي طه حسين في أكثر الصور تداولاً له، وغيرهم
الكثير وثقت عدسة فان ليو ملامحهم بالأبيض والأسود وحتى الألوان، وبدت السمة الأساسية للقطاته من استخدام الإضاءة والظل.
يسار الدخول، تبدأ جولة المعرض بصورة لصديق فان ليو المصور الأمريكي باري ايفرسون وزوجته نهال. كان ايفرسون سبب قويًا في إقناع فان ليو بإعطاء أرشيفه إلى الجامعة الأمريكية في إبريل 1998 بعدما لم يعد المصور
الأرمني قادرًا على مزاولة ما يحب وأعلن إغلاق الاستوديو الخاص به. أراد ليو أن تظل صوره في مكان واحد وتكون متاحة للجمهور ولا تصبح عرضه للبيع والشراء.
تبادلت بسنت وأماني الدهشة من لقطات فان ليو، “إزاي كان بياخد الكادرات دي في وقت مافيهوش كاميرات حديثة”، ينظرا إلى الوجوه المطلة من الصور، في ركن المشاهير، اخذا يعددا ما يعرفونه، يدققا في الملامح
الظاهرة بالأبيض والأسود، ويتعجبا من الصور الملونة، تخبر بسنت رفيقتها عما عرفته “طنط رجاء كانت بتقول إنه كان بيلون الصور بإيده مش بيحمضها بالألوان زي ما هو معروف”.
ما هي إلا خطوات ويتأكد الأمر في الركن الخاص بالصور التي التقطها فان ليو لنفسى “سيلفي” كما هو معروف حاليًا، إحدى الصور تظهر كيف كان يقوم بالتلوين الذاتي باستخدام عدسة مكبرة وريشة دقيقة، فيما تضيف
مسؤولة المعرض أن ذلك كان في الخمسينيات، وحينما عرف المصورون التحميض بالألوان لم يرغب ليو في هذا واستمر في عمله.
ما بين عامي 1942 و1944 التقط فان ليو ما بين 300 و400 صورة لنفسه، تعلم المصور الأرمني التصوير بالتجريب، أراد إضفاء الحالة الدرامية أو الهوليودية للقطاته، فعكف على التجربة حتى أن والده في بداية مسيرته كثيرًا
ما نهره وقال “أحنا فاتحين الاستوديو عشان تصور نفسك وتهدر ورق”، لكن تلك العادة لازمته حتى بعدما أصبح مصورًا معروفًا.
بين الملامح تطل صور أسر، عرائس، سيدات مصريات وأجنبيات، شخصيات عامة وعسكرية. حاولت علا أن تحمل أستوديو فان ليو لزائرين المعرض، فوضعت في الاستقبال مكتبه، وفي ركن الصور الذاتية أعمدة الإضاءة
التي ظل يستخدمها والعتبة التي كانت بالمكان، فكل تفاصيل مملكة ليو الفوتوغرافية في 7 شارع 26 يوليو انتقلت إلى الجامعة الأمريكية “بعد وفاته اتحولت كل مقتنياته للجامعة لأنه مااتجوزش ومفيش حد من أسرته”.
بلمسات مماثلة لما كان في أستوديو فان ليو، رغبت علا أن تظهر “الاستوديو حصل فيه إيه. إزاي كان زي الخروجة الواحد بيلبس أحلى ما عنده ويروح مع أسرته وكل حد ياخد صورة تبقى ذكرى ما تتعوضش”. كان مجهودًا
شاقًا كما تقول مسؤولة أرشيف الجامعة الأمريكية لكنه محبب لها “من حوالي 10 سنين كل اللي بعمله أني أشوف صور واعمل مدونات وافهم أكتر عن المجتمع من خلال الصور”.
حتى آخر صورة بالمعرض، لم ينخفض حماس بسنت وأماني، حققت الرفيقتان الهدف من الزيارة “نشوف الدنيا كانت عاملة إزاي زمان وتفاصيل الحياة”. تواصلان تبادل التعليقات، تخبر السيدة الخمسينية الشابة “خلينا نتفرج
وننضف عنينا شوية”. كان المصور الأرمني مثابرًا، مبدأه طيلة حياته “هطلع صورة حلوة يعني هطلع صورة حلوة” كما تقول مصممة المعرض، التي لا تعتبر فان ليو مجرد مصور رحل ومر على ميلاده مائة عام بل ذاكرة لأكثر من نصف قرن أرادت أن تُحييها.