الآلـــــة..
2024 Oct,21
آلة مترامية بأطراف كثيرة مكرسة لصناعة اليأس تدور في المنطقة منذ عقود، شبكة معقدة ومدروسة من مراكز البحث ومناهج التعليم والدعاة والصحافة المكتوبة والفضائيات بتخصصاتها؛ أخبار وفنون وترفيه ورياضة وشريعة…
وستستدرج حول خطابها الذي يتغذى على الهزيمة متطوعين كثرا من المثقفين وصناع الرأي الذين أنهكتهم مصائرهم، تضيفهم إلى مجاميع العاملين في شبكتها الواسعة، في محاولة للاستيلاء على المنابر والشاشات ومخاوف الناس وانكساراتهم وثقل هزائمهم وإغراق كل شيء بمواقع تفسير الأحلام، وتدجين صناعة الوعي، كأن تستبدل بإدوارد سعيد عائض القرني وبمحمود درويش سلسلة أمير الشعراء الذي يعاد إنتاجه كل موسم في مهمة وحيدة هي صناعة الرداءة بأصنافها، الرداءة التي توفر بدورها المادة الخام لإنتاج الوعي الرديء.
كانت موجودة دائما وقادرة على التخفي والتسلل إلى بيوت الناس وشؤونهم من شقوق حياتهم ومشقة جهدهم، في إقليم مستباح يواصل تحطمه على مرأى من أحلامهم وحاجاتهم.
قادرة على استثمار الحق الطبيعي الضروري للناس بالفرجة والموسيقى والفن ومهارات الجسد والشعر… واحتكارها وإعادة إنتاجها بعد تجويفها من جوهرها.
تحطيم حواضر المركز بثرائها الثقافي العريق الذي راكمته عبر طبقات حضارية عديدة؛ بيروت ودمشق وبغداد.. واستبدالها بمدن الملح، حسب التعبير المدهش لعبد الرحمن منيف.
تسونامي "ترويض" للإقليم وتنظيفه من الأسئلة التي بقيت عالقة في نسيجه، أسئلة حول الحرية والعدالة والمواطنة والمستقبل.
تنظيف الإقليم من الأسئلة التي أحضرتها نكبة فلسطين معها ووضعتها ثورة الفلسطينيين في وعي الناس.
تنظيف الإقليم والعالم من فلسطين.
آلة بهتت في الأيام الأولى للحرب على غزة وبدا أن السابع من أكتوبر، بما له وما عليه هذا أمر آخر، وما تبعه حتى تعدى العد السنة، قد كسر مفاصل كثيرة فيها وعطل مسننات كانت في أوج عملها، وغير اتجاه السير في انعطافة خارج "السياق" تماما، لم يكن حادثا على الطريق يمكن تجاوزه بعد تنظيف الإسفلت من الزجاج والحطام وبقع الدم، كان اقتراحا متصاعدا للطريق نفسها. ولكنها، فيما يشبه هجوما مضادا، استعادت خلال سنة طويلة من الإبادة عافيتها التي فقدتها في الأسابيع الأولى، أعادت تزييت مسنناتها وشفراتها واستحضار خطابها، وبدأ دوران عجلاتها يتصاعد مع تصاعد أرقام القتلى والبيوت المدمرة والمدارس والمشافي المحاصرة والمقصوفة التي تتغذى عليها.
ها هي تخوض هجوما مضادا بعد أن التقطت أنفاسها واستردت شيئا من توازنها، لتعويم كل ما هو مشرق في هذه العتمة، ومعاودة زراعة الهزيمة وثقافة الخسارة على عتبات البيوت ونوافذها.
ها هي تخوض حرب إبادة للأمل بموازاة حرب الإبادة القائمة على الأرض.