الأبعاد السياسية للحرب الروسية الأوكرانية أهم كثيراً من أبعادها العسكرية..

حدد سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي هدف بلاده من حربها في أوكرانيا بتحريرها من “الإدارة الأميركية والنازية الخارجية”، وأكد أن بلاده ستعود إلى المفاوضات مع أوكرانيا حالما تستسلم القوات الأوكرانية وتلقي سلاحها . وقال الرئيس السوري بشار الأسد في رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن “ما يحصل اليوم هو تصحيح للتاريخ، وإعادة لتوازن العالم الذي فقده بعد تفكك الاتحاد السوفيتي”، وعلل رد الغرب الغاضب على ما فعلته روسيا بأنه من “أجل إبقاء التاريخ في المكان الخاطىء لصالح الفوضى التي لا يسعى لها إلا الخارجون عن القانون”.
في القولين السابقين تتحدد الأبعاد السياسية  للحرب الروسية _ الأوكرانية، وهي أهم كثيرا من الأبعاد العسكرية، فلا أحد يتوقع من أوكرانيا أي صمود في وجه القوة الروسية العسكرية الجارفة التفوق على القوة العسكرية الأوكرانية، والقيمة العسكرية الوحيدة للهجوم الروسي أنه تحدى الناتو واثقا من أنه لن يغامر بأي مواجهة عسكرية مع روسيا يخاف تطورها إلى حرب نووية مهلكة للجميع . وابتداء من هذا الطرح، نتوقع أن يكون الصراع بين روسيا من جهة، وأوكرانيا وأميركا وحلفائها الغربيين من جهة مقابلة صراعا سياسيا ولو داخلته بعض الوسائل العسكرية المحسوبة. ويبدو الأوكرانيون غير ميالين إلى الحل العسكري وإطالة الحرب، وبادرت دولتهم إلى بيان استعدادها لإعلان نفسها دولة محايدة ، أي أنها ستكف عن السعي للانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي ، وهذا ما تريده روسيا.
وواضح من مجريات أحداث الحرب أن الطرفين، الروسي والأوكراني، لا يرى كل منهما في الآخر عدوا لدودا ، وظهر هذا في توكيد الروس أنهم لا يريدون من الجنود الأوكرانيين الذين يستسلمون إلا تعهدا بأنهم لن يتعرضوا للقوات الروسية، والطريق مفتوح أمامهم للعودة إلى بيوتهم وأسرهم. وانتفاء العداوة الشديدة طبيعي بين شعبين عاشا 400 عام في دولة واحدة، وبينهما وشائج لغوية وثقافية  واقتصادية وبشرية كثيرة وثيقة، ويشكل الروس في أوكرانيا 17 % من عدد السكان، وفي إقليم دونباس 38 % ، والكنيسة الروسية لا زالت تتبع الكنيسة الأوكرانية، وكان لافتا التنسيق السريع بين المظليين الروس والجنود الأوكرانيين لتأمين مفاعل تشيرنوبل.
وفي مثل هذا الجو ليس مستبعدا أن تتوقف العملية العسكرية الروسية قريبا، ويشرع الطرفان في مفاوضات سياسية ، وهو ما لا يريده الناتو الذي يتخوف من انتصار روسيا سياسيا لخطورة هذا الانتصار على المصالح الغربية في كل العالم، ولما سيصاحب هذا الشعور بالانتصار من خسارة الغرب بقيادة أميركا لثقة الدول التي تعتمد عليه في حمايتها، ومنها دول عربية ، لشعورها بأنه خذل أوكرانيا حتى جاهر رئيسها فولوديمير زيلينسكي بمرارته وصدمته من هذا الخذلان حين قال: “ندافع عن وطننا وحدنا، أقوى دول العالم تكتفي بالمشاهدة عن بعد”، وواضح أنه يقصد أميركا.
لن يسلم الغرب بقيادة أميركا بهذا الانتصار الروسي ذي الأبعاد العالمية، وسيفعل كل ما في  قدرته للحد من آثاره، وسيتخذ من أوكرانيا ومن دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وأستونيا وليتوانيا  وربما من دول آسيا الوسطى التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي ميادين للتحريض ضد روسيا ، فهذه الدول فيها ملايين المواطنين الروس، ويستطيع الغرب أن يحرض عليهم شعوب هذه الدول مخوفا لها من احتمال انفصال هؤلاء الروس عنها ، واستنجادهم بروسيا مثلما استنجد بها روس لوجانسك  ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، فأنجدتهم بالحرب  على أوكرانيا وفي بالها أهداف أبعد أوجزها وزير خارجيتها لوفروف في الاقتباس الذي استهللنا به ما كتبنا.
الغرب الاستعماري وأميركا لا يستسلمون لأعدائهم بسهولة ، وهم يرون روسيا عدوا تاريخيا، وفي مستهل رئاسته لم يخفِ بايدن قناعته التي هي قناعة أميركا أن روسيا هي العدو الأول لبلاده مقدما لها على الصين في مرتبة العداوة والخطر. أي حرب مهما طالت ستنتهي، والحرب الحالية بين روسيا وأوكرانيا لن تطول، ونتائجها أو أبعادها السياسية هي التي سيطول الصراع في جوها بين روسيا وحلفائها مثل الصين وإيران وسوريا وبعض العرب، وبين أميركا ودول أوروبا الغربية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي طالبت مستشارتها السابقة ميركل بإيقاف بوتين سريعا عند حده، وستكون إسرائيل وتركيا وبعض الدول العربية خاصة  الخليجية في صف أميركا ودول أوروبا الغربية . تطورات سياسية وتحالفات عسكرية جديدة  كثيرة ستحدث في العالم بعد أن تتوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا ، وستكون الأبعاد السياسية هي أهم هذه التطورات.
كاتب فلسطيني