الأخلاق عـارية..!!! أكرم عطا الله

بغض النظر عن إجراء الرئيس الأوكراني المبكر بسحب عضوية دولته من لجنة الأمم المتحدة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف وعدم تعاطفه مع اللاجئين الفلسطينيين، وبغض النظر عن رأي الفلسطينيين فيه كحالة تبدو معادية لحقوقهم، وبغض النظر عن ادعاءات أطراف الحرب الدائرة الآن وأسبابها والتي تتشابك فيها التاريخية والاقتصادية والأمنية، لكن التعاطف الفلسطيني مع اللاجئين الأوكرانيين هو تعبير عن شعور الضحية بمأساتها التي استعادت ذاكرتها تجربة التشرد واللجوء، فالفلسطيني الذي تعشب تاريخه بالحزن أكثر من يعرف ماذا يعني أن يتحول شعب الى لاجئين.
أن تتضامن إسرائيل مع لاجئي أوكرانيا ورفضها السيطرة على شعب آخر بالقوة …! فهذا أمر بحاجة الى تفسير حقيقي، ولكن في عالم تم ضبطه الأسبوع الماضي متلبساً بانفصام الضمير عندما تحرك بما يتطلبه الواجب الإنساني لمساعدة لاجئي أوكرانيا خلال سبعة أيام، فيما كانت تلك الإنسانية مجرد حجر أصم منذ سبعة عقود دون أن يشعر العالم بأي خلل لهذا الضمير الذي وقف الفلسطيني على عتبته منادياً منذ النكبة، وتجربة اللجوء الأكبر بلا أمل، فتلك ربما قد تكون قدمت تفسيراً لكنه بات بحاجة الى تفسير أكبر.
يسقط الفرد عندما يعطي أكثر من موقف لقضية واحدة، وبالنسبة لقضية اللاجئين لعائلات تترك بيوتها هرباً من جحيم الحرب، وأطفال يصبحون فجأة بلا مأوى سواء في فلسطين أو أوكرانيا أو العراق أو حتى لأي شعب صنع حضارته واستقر لمئات أو آلاف السنين على أرضه وزرع أحلامه على ترابها، فان الفلسطيني أكثر من يعرف ماذا تعني ويلات الحروب ودمارها ومآسيها. لذا فقد كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن ازدواجية المعايير لعالم يرى يومياً شعباً تحت الاحتلال دون أن يحرك ساكناً، فيما حرك ما يكفي من ممكنات القوة والعقوبات خلال أيام بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
كأن العالم يقول للفلسطينيين: أنتم درجة ثالثة ومن أجل أن نبحث قضيتكم كان يجب أن تكونوا أوروبيين، وشريطة أن تصبح مطالبكم عادلة يجب أن تكونوا من أصحاب البشرة البيضاء، ولا متسع لكم في هذا العالم، وأن المؤسسات الدولية والقرارات والمواثيق لم توضع من أجل شعب مثلكم ولا مكان لكم بها، وأن مؤهلات الاعتراف بحقوقكم تستند لمعايير غير التي تعتقدون، لأن لهذا العالم معاييره التي انكشفت عند أول طلقة أطلقت في أوروبا.
هذه الحرب أصابت الفلسطيني بدهشة وإحباط كبيرين، لكنه لم يفقد قيمه الأخلاقية، وهو يرى آلاف ضحايا الحرب من الشعب الأوكراني، ولكنه اختبر قيم العالم وأخلاقه التي وقفت أمامه عارية وهو يعطي حكمين مختلفين لقضية واحدة، الى الحد الذي يبرر له فقدان الثقة بكل المؤسسات الدولية والنظم السياسية في العالم. ولكن في هذا ما يحمل من نتائج شديدة الخطورة عندما يتم تجاهله بهذا الشكل، كأن عليه أن يفقد ايمانه بكل مساراته التي اعتقدت وآمنت بالمجتمع الدولي والعدالة الدولية والمؤسسات الدولية، أو كأن عليه أن يبحث عن وسائل أخرى، وعليه أن يكف عن انتظار سراب عدالة معلقة في السماء وليست مكتوبة في مواثيقها ومعاهدات حقوق الإنسان التي يتضح أنها لا تنطبق على الجميع سواسية كما تقول النصوص.
اتضح أن للعدالة معايير غير التي يعتقدها الفلسطيني، معايير تتعلق باللون والعرق، ووفقاً لها تحدد موقعها هل تتعاطف مع الضحية أو تتواطأ مع الجلاد، يفيق ضميرها مصدوماً أو ينام لعقود، ترتدي ثوب النزاهة أم تقف عارية مجردة من أي ورقة توت بلا خجل، فهناك حسابات اتضح أن الفلسطيني الذي لم يتعب وهو يجوب العالم حاملاً مرارة أكثر من سبعة عقود وهو يشرح قضيته أنه على خطأ وهو يراقب بحزن مرة على لاجئين أوكرانيا ومرات على تاريخه الطويل وسط هذا الصمت الأطول.
الفلسطيني ليس ساذجاً للدرجة التي يتوهم فيها أن القرارات الدولية والإجراءات الدولية يتم تطبيقها بمساواة تامة، فهناك ما يكفي من المؤشرات التي اختل فيها ميزان الحكم دفاعاً عن شعوب معينة، أو ضد أنظمة معينة عندما يستنفر مجلس الأمن وعقوباته، وعندما يصاب بالسكتة حين تتحرك أنظمة، وعندما تصاب بحكمة أو بلوثة الصمت، يدرك الفلسطيني أن السياسة مختلة وأن المصالح شرطها ولكنها بحاجة الى قدر من الغطاء الأخلاقي بحده الأدنى، معتقداً أنه يمكن أن يتعلق بهذا الغطاء، لكن أن يكتشف أن ليس له مكان وأنه ليس أكثر من هندي أحمر في هذا الكون فتلك مفارقة ترش ملحاً على جرحه المفتوح.
كان مشهد النزوح الأوكراني يثير الحزن والعطف، فتلك مأساة إنسانية حين تقع الشعوب ضحية حروب أو ضحية خفة قياداتها في ممارسة السياسة، ولكن ما يثير الحزن أيضاً هو هذا التجاهل الشديد لشعب مازال تحت الاحتلال، قد تنتهي مأساة أوكرانيا ويعود النازحون الى ديارهم ويعودون لحياتهم بسلام، ولكن الفلسطيني الذي راقب مأساتهم سيظل معلقا على أنياب التاريخ الحادة، وشاهداً على الضمير العالمي الذي يسقط في اختبار الأخلاق مع كل مأساة جديدة….!!!!